كشف الدكتور محمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق مدى الهجوم الذي تعرض له من جرّاء مناداته بدمج تعليم البنين والبنات معًا، وعدم التفريق بينهما، مبينًا أن الهجوم عليه وصل إلى حد الإساءة إليه، وسبّه على منابر المساجد، مشيرًا في هذا الصدد إلى أنه لا معنى على الإطلاق أن تكون هناك جهتان مسؤولتان عن التعليم إحداهما للبنات والأخرى للبنين، كما أشار الرشيد إلى حملة الاعتراض الواسعة التي شنت على إدارته عندما رفعوا فكرة إدراج مادة اللغة الإنجليزية في المناهج التعليمية منذ الصف الأول الابتدائي، والتي أقرها الملك عبدالله، لتنطلق الحملة محذرة من ذلك بوصفه سيقود إلى إضعاف اللغة العربية و “تعويج لسان أبنائنا”، مبديًا استغرابه لعدول هؤلاء المهاجمين وعدم اعتراضهم على قرار قبول الطلاب السعوديين في المدارس الأجنبية، واصفًا هذا القرار بالخاطئ، مشيرًا على أنه من العيب أن تكون المملكة العربية السعودية في قلب الجزيرة العربية ومنها انطلقت الرسالة الإسلامية الخالدة ويدرس أبناؤها بلغة أجنبية. كذلك أثنى الرشيد على نهج الملك عبدالله في توسيع دائرة الحرية وإتاحة الفرصة للجميع للتعبير عن رؤاهم في حدود الاحترام والتقدير والبحث عن الحقيقة، مؤكدًا أن هذه الحرية تعد إحدى الإصلاحات المشرقة لخادم الحرمين الشريفين، مبينًا أن البيروقراطية الحكومية تمثل إحدى المعوّقات التي تقف في طريق تنفيذ توجهات الملك عبدالله.. العديد من المحاور التي تكشف مسيرة الرشيد مع التعليم والشورى والصحافة طي هذا الحوار.. عاشق التربية والتعليم * حينما توليتم حقيبة وزارة المعارف -سابقًا- ووزارة التربية والتعليم -حاليًّا- هناك مَن يرى أن منعطفًا تاريخيًّا في رحلة التعليم في المملكة، وكأنّك أتيت بفكر مغاير عن المنظومة التربوية.. فلماذا التغيير؟ هناك عنصران لنجاح أي إنسان في أي عمل يتولّاه، العنصر الأول هو التخصص في هذا المجال، والعنصر الثاني هو عشق هذا العمل. الحمد لله منذ أن نشأت وحتى بلغت الآن الخامسة والستين لا زلتُ أعمل في حقل التعليم. بدأتُ معلّمًا، ثمّ معيدًا في الكلية بمكة المكرمة، ثم ابتعثتُ لدراسة مجالات التربية، وعدتُ أستاذًا عميدًا للكلية، في جامعة الملك سعود، ثمّ مديرًا عامًّا لمكتب التربية بدول الخليج، وكان لي دور في إنشاء جامعة الخليج، وهي أول جامعة تشترك في إنشائها عدة دول. ثم كنتُ عضوًا في اللجنة التعليمية بمجلس الشورى، وأخيرًا تشرفت بالعمل لمدة عشر سنوات وزيرًا للتربية والتعليم التي كانت وزارة المعارف -آنذاك- ثمّ تحوّلت في عهدي إلى التربية والتعليم. أعشق التربية والتعليم وأحبها، وأعتقد أنه لا يمكن أن تتحقق نهضة لأي أمة من الأمم دون أن يكون للتربية والتعليم نصيب فيها. لذلك ومنذ زمن بعيد رفعت شعار أردده دائمًا وهو (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة). ابحثوا عن التربية العظيمة تجدون وراءها معلمًا عظيمًا. هكذا نشأت؛ ولما تشرفت بأن أكون وزيرًا للمعارف قضيت أسبوعين وأنا أفكر في الإستراتيجية، وفي ما يجب أن أعمله، ولذلك بدأت بمحاضرة ألقيتها في جمع كبير جدًّا في جامعة الملك سعود عنوانها «تعليمنا إلى أين؟» وقد تناقلتها كثير من وسائل الإعلام وتمت طباعتها إلى كتيبات. وضعت في هذه المحاضرة كل آمالي عن التعليم وما ينبغي أن يكون عليه. كان تركيزي في ذلك المقام عن أنه ينبغي أن ننطلق انطلاقة جديدة بمفهوم جديد للتعليم الذي كان يرتكز على أن المدرسة هي المعين الوحيد للعلم والتميّز. لم نكن نحصل على العلم إلاّ منها. لكن كما قلت للمستمعين في تلك المحاضرة فقد تغيرت الأمور ولم تعد المدرسة هي المصدر الوحيد، ومَن يرد أن يبحث عن العلم يمكنه أن يجده في مصادر أخرى، فالحمد لله قد توفرت المصادر والوسائل التقنية والتلفزيونية والفضائية. لكن ينبغي التركيز على مفهوم التربية. أذكِّر بالمثل الصيني الشهير الذي كنت أنا أول مَن أشاعه في هذه البلاد «لا تعطني كل يوم سمكة، ولكن علّمني كيف أصطادها». دور المعلم ليس أن يلقّن طلابه، وإنّما دوره أن يدلّهم على مفاتيح المعرفة؛ كيف يصلون إليها، وكيف يستفيدون منها. ثم إنني ركزتُ كذلك على أن أهم شيء هو كيف نستطيع أن نوجد روحًا لدى المعلم حبًّا لمهنته، وشوقًا عارمًا إليها، وأن نكرمه. إذا لم نوجد هذه الروح والشوق لدى المعلم، ولم نكرمه ونعتنِ به تدريبًا وتطويرًا فلن تفلح كل جهودنا. اقتباسات مفيدة * لكن هناك مَن يرى أنك كثيرًا ما ترتكز في مرجعياتك إلى نظريات غربية، وأنك كنت تعلنها مباشرة، إضافة إلى تبنيك لرؤية إستراتيجية أمريكية؟ هذه ليست حقيقة؛ ولكني أتبع الحديث القائل «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ النّاس بها»، والذي يجادل أو يماري في أن التعليم بأسلوب جديد أتانا ممّن هم قبلنا. لا آخذ الفكر الديني أو السلوكي للآخرين، ولكني أستفيد من الكيفية التي يستطيعون بها إفادة الطالب. لا أجهل على الإطلاق ما في تراثنا القديم من قيم، ولا أتجاهله، وعندما أستشهد على سبيل المثال بما حدث في بلاد مثل اليابان التي خرجت مهزومة من الحرب العالمية الثانية، ورغم ذلك أصبحت في فترة وجيزة ثاني أقوى اقتصاد في العالم. ما جعلها تحقق ذلك هو المدارس. ذهبت مع وفود كثيرة إلى معظم دول العالم المتطورة، وطالعنا ما في هذه البلاد من أنظمة تعليمية. تحوّلنا من معجبين بدول كثيرة مثل اليابان وكوريا الجنوبية التي كانت إلى وقت قريب دولة متخلّفة جدًّا لكنها ركّزت على التعليم، ونوع التعليم فتطورت إلى حد كبير، وفاقت كثيرًا من الدول التي كانت تسبقها. كررتُ دائمًا أن اليابان اعتنت بالمعلم أكثر من اعتناء الآخرين بصناعة البنوك. مَن يعملون في البنك فإنهم مؤتمنون على أموال الناس، لكنّ مَن يعملون في المدارس مؤتمنون على ما هو أغلى من المال، وهو عقول الطلاب. كنت أقول دائمًا أنه لا بد من اصطفاء أفضل الأشخاص ليصبحوا معلّمين. إذا كان هذا هو اقتباسي من حضارات العالم الآخر، فأنا أعترف بأنني اقتبستُ منهم النافع المفيد، ولم أقتبس الغث الذي لا جدوى من ورائه. سبٌّ في المساجد * في بدايات عهدكم انتقل التعليم في المملكة من التعليم ذي الشقين (بنين وبنات) إلى التعليم الموحد. هناك مَن يرى أنك كنت وراء الموضوع؟ أريد أن أذكّر مقولة سياسي مصري شهير قال «هي تهمة لا أنكرها، وشرف لا أدّعيه». لا أقول إنني كنت وراء هذا الموضوع، لكنه اتّهام جيد وغير سيئ. منذ اليوم الأول الذي تشرّفتُ بأن أكون فيه على رأس وزارة المعارف فقد التقيت في اليوم الأول بالمسؤول عن تعليم البنات، وركّزتُ على أهمية التركيز. كنت أرى ولا أزال أنه لا يوجد ما ينبغي أن يوجد فيه خلاف بين منهجي البنين والبنات، إلاّ ما تقتضيه الضرورة. في كثير من الأحيان كان هناك اختلاف في المعلومات. أتذكر أنه في بعض الأحيان كانت معلومات تاريخ المملكة العربية السعودية تختلف في كتاب البنين عن كتاب البنات. لماذا يطبعون كتابين للبنين والبنات عن منهج اللغة العربية؟ لماذا لا يكون كتابًا واحدًا؟ قرآننا واحد والإرث الذي ورثناه عن فقهائنا ليس فيه تفرقة بين البنين والبنات. لماذا تتبعثر الجهود؟ في ما يخص تأثيث وتجهيز المدارس قلت أنه يمكن بدلاً عن أن نعلن عن حاجتنا لألفي مقعد مدرسي لكل فئة يمكننا أن نعلن عن حاجتنا لأربعة آلاف مقعد. أنا من المؤمنين بأنه لا معنى على الإطلاق لأن تكون هناك جهتان مسؤولتان عن التعليم إحداهما للبنين والأخرى للبنات. الجامعات في الوقت الحالي بها بنين وبنات؛ ولم نسمع عن وزارة التعليم العالي للبنين ووزارة التعليم العالي للبنات. هذا هو توجهي وحريص على الدمج. الحمد لله لم يكن الأمر مني لكن الملك عبدالله هو الذي اتخذ هذا القرار وكانت مفاجأة سارة لي عندما دعاني في ذلك اليوم وقال لي إنه قد قرر هذا الدمج. لسوء الحظ فقد تسرّع البعض وأدلوا بدلوهم في الموضوع، لكن كثير من الناس سروا لهذا القرار الذي لا أرى فيه لا توجد أي وجاهة أو مسوّغ لفصل تعليم البنين عن البنات. بعض الناس سبّني وذمّني حتى من على منابر المساجد كما تعلم وقالوا: إن من أوكل إليه هذا الأمر لم يؤتمنوا على ذمة أو عرض. لضلال هؤلاء فقد كنت مسؤولاً عن تعليم البنات لثمان سنوات، فإذا كنت لا أؤتمن على عرض فكيف جعلني ولي الأمر في هذا المنصب؟ واجهت هذا الاتهام الذي وجدناه في المساجد وفي الإنترنت وفي كثير من المنابر. تجاهل وخياران * كانت هناك هجمة على معاليكم فكيف واجهت هذه الهجمة وكيف كان شعوركم وردة فعلكم؟ في الحقيقة فقد واجهت الهجمة بأن لم أدخر وسعًا في الكتابة في الصحف واجتمعت بالمسؤولين في كل المدن الرئيسية وشرحت لهم ما يعنيه هذا الدمج، وأوضحت الأمر لهم وظهرت في التلفزيون أكثر من مرة؛ ولكن من لديهم تلك الرؤى الخاطئة لم يكونوا على استعداد للاستماع. كان أمامي خياران: إما أن أدخل في جدل طويل معهم وقضاء ومقاضاة ورفع دعاوى وهذا كان سيشغلني ويعطلني عن أداء الأمانة التي أنيطت بي. حنظل التلقين