ممّا لا ريب فيه أن للكتاب سوقه، وللكلمة قراءها، وللفكر محبيه، وللأدب قارئيه، وهذا ما لا يشاحنّي فيه أي قارئ أو مثقف؛ فكل إنسان هو بطبيعته قارئ، وإن لم يقتنِ الكتب أو يشتريها، فالقراءة هي ممارسة إنسانية قديمة منذ أن وجد العقل: إننا نقرأ وجوه الناس، ونقرأ مدلهمّات الحياة، ونقرأ تفاصيل الوجود، ونقرأ سطور الواقع، ونقرأ الحب والكراهية، والكفر والإيمان، والعرفان والجحود، ومَن لا يقرأ لا يُبصر، ومَن لا يُبصر يُصاب بالعمى والظلام والتيه والضياع، فالإنسان قارئ بطبعه، لأنه قارئ بطبعه، والقراءة ليست مظهرًا فسيولوجيًّا تشريحيًّا، وليست حساسية جسدية، ولا مزاولة فيزيائية وحركية، إنها أولاً وأخيرًا، ميتافيزيقا عقلية ما فوق طبيعية، وهبة حازها الإنسان دون غيره من الكائنات! فنحن -دون غيرنا- نملك أن نتناقل ونتبادل الأفكار بين الرؤوس، ونتشاركها مع بعضنا البعض، دون أن تتملك هذه الهبة أية مخلوقات أخرى تغايرنا. نعم إننا نقرأ، ونفكر، ونبحث، ونروم الحقيقة، ومن أجل ذلك توجد الكتب، وتصنّف المصنفات، وترتب الفصول، وتبوب الأبواب، ولولا هذا كله، لما كانت ثقافة، ولما كان كتاب، ولما كبر إنسان، ولبقيت الأيام جوفاء مليئة بالخواء، لا حياة فيها، ولا خصوبة، ولا نماء. والذي يشاهد معارض الكتاب في بلادي، لا يسعه إلاّ أن تتملكه الفرحة على ما يشاهده من إقبال مهول على هذه المعارض، فيشعر كأن القوم لا هم لهم، ولا شغل إلاّ القراءة، وكأنهم أصبحوا من الباحثين والدارسين والمفكرين، وصار جلهم من الفلاسفة والعلماء والأدباء الأريبين؛ وهذا ما لا يمكن لي ولغيري أن ينكره، أو يتعامى عنه، فالقراءة صارت سوقًا، والسوق بطبيعتها تتضخم وتتغول؛ ومن مصلحة السوق أن تجذب الانتباه، وتشد الأذهان، وتخطف الألباب والقلوب، ومن طبيعة الناس أن يكونوا قطعًا محتشدة، وزرافات متكدّسة تتهافت على السلع، وتبتغي التملك. ولكن هل صار معرض الكتاب، معرضًا لبيع السلع والبضائع؟ أم أنه كان يُراد منه أن يكون معرضًا للتثقيف والتحبيب بالقراءة العقلية الراشدة؟ إن أخشى ما يخشاه كاتب هذه السطور أن يكون هذا المعرض الجميل والمزدحم بزوّاره مجرد ركن من أركان الرأسمالية المادية، ومجرد زاوية من زوايا الربح والبيع والتسبّب والترزّق، وهذا كله لا مشاحة فيه، إذا ما كان يتم بالطرق الواعية والسليمة والنزيهة، ولكن الأمر ليس هكذا، فالأسعار قد نسفت الأسقف، والكتاب صار سلعة ممنوعة، يتنافس في قنايتها المتنافسون، وقداسة الكلمة باتت من مستحيلات الوصول ليس لأنها ممنوعة (كما قديمًا) ولكن لأن ذوي المدخول البسيط غير قادرين على الشراء بآلاف الريالات التي قد يدّخرونها لما هو أكثر ضرورة من القراءة، وهذا ما جعل ضعاف النفوس، ومرضى العقول ينتصرون باسم تجارة الثقافة والفكر والأدب! ومن المعروف أن هذه المعارض تحتوي كتبًا ممنوعة، لا سيما كتب المراهقين والمراهقات، ككتب الجنس، والفضائح، والروايات الباهتة والسطحية، أو الكتابات الاستفزازية الصارخة، ومثل هذه الكتب تُتناقل سرًّا وتحت الطاولات، وبأيادي الناشرين وسواهم، وبات هؤلاء يستغلون صغار القراء ومتحمسيهم لأجل التسويق لسلعهم التي هي ممنوعة؛ ولذا فالسعر يتضاعف، (والذي هو في أصله مرتفع!) ويصير الكتاب خارج المعرض بثلاثين ريالاً أو جنيهاً (رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ كمثال) ولكن بداخله يصير بمائة وخمسين ريالاً (أي خمسة أضعاف!) وهذا يدل على استغلال الناشرين، وضعف الرقابة المادية والتجارية عليهم، فهم يستغلون كون الكتاب ممنوعًا، ويستمرئون بيعه كما تُباع المخدرات والعقاقير المحرّمة، ويستسيغون عندها أن يرفعوا في السعر كما شاؤوا، طالما أنه لا رقيب ولا حسيب، وطالما أن هذا الشعب -بزعمهم- هو شعب تطفح منه الريالات والكنوز مع فيضان براميل الزيت والبترول! وهذا كله يقود إلى استنتاج مهم إلى حد ما، وهو كون هذه المعارض ليست بالضرورة ذات هدف ثقافي بحت، فصحيح أن وزارة الإعلام -ممثلة بالوزير عبدالعزيز خوجة- قد بذلت جهودًا عظيمة في إنجاح وإبراز هذا المعرض والتسويق له؛ بدليل هذا الحشد الهائل من الزوار، والزبائن، والقراء، ولكن هذا يعني أن للمعرض سلبياته، وأهمها على الإطلاق ارتفاع الأسعار المادية التي لا تمكّن كثيرين من قناية الكتب التي يريدونها، فضلاً عن شيوع النصب والاحتيال، والارتزاق من الناشرين أنفسهم، وابتزازهم المستمر والمتواصل للزبائن! وأرجو أن لا يُنظر لهذا المقال على أنه مقال هجومي، أو مقال صاخب يتم توجيهه للانتقاص من فكرة المعرض نفسه، وهي الفكرة التي أجدها في قمة المثالية والإنسانية، ولكن أيضًا فإن النقد والتسديد هو شكل من أشكال الإرقاء والإعلاء، ومعرض الكتاب مثله مثل غيره من المعارض يحتوي على سلبيات جمة، فهو وإن خلا هذه السنة من هجمات المتطفّلين والمتطرفين، فإنه -وبالمقابل- لم يخلُ من مظاهر نصب واحتيال، وعصابات تسرق الناس باسم التربّح عن طريق الثقافة.