بين حين وآخر يفاجئنا أحدهم بفتوى مزلزلة تحدث دوياً هائلاً في أوساط المجتمع، وينقسم الناس حولها بين رافض ومؤيد وبين الموقفين يقف آخرون في جزيرة وسطى. لكن أن تتعلق الفتوى بجوانب ذات أبعاد قد تهدد الأرواح والممتلكات وتمس الأمن العام، فهذا يدق ناقوس خطر ربما كان على الجميع مواجهته. وعطفا على ذلك فبين وقت وآخر تطالعنا بعض الأصوات بفتاوى في قضايا هي محل جدل وخلاف، فعلى من تقع مسؤولية إسكات هذه الأصوات وما الدور الذي يجب على الدولة القيام به في هذا الشأن؟ ولماذا يلجأ البعض لتصيد ما هو محل جدل وخلاف لإثارة العواطف الدينية وزرع بذور الفتنة؟ هل على المرجعيات الدينية مثل هيئة كبار العلماء أو المجامع الفقهية أن تسارع لحسم الجدل في القضايا الخلافية حتى تضع نقاطا على آخر سطورها وتغلق الباب أمام المتشددين؟ "الرسالة" طرقت في ظل المحاور السابقة ، ووجَّهتها إلى العلماء والفقهاء والدعاة وأساتذة الجامعات واستطلعت .. فإلى مضامين ما قالوا به: إيضاح الأحكام بداية يرى الدكتور محمد بن يحيى النجيمي الخبير بمجمع الفقه الإسلامي أهمية الدور الذي على نريد من المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء أن يلعبوه، ويقول: على هؤلاء أن يبينوا ما هو معلوم من الدين بالضرورة بأنه واجب، أو محرم، أو مباح، وأن يبينوا أصول الدين المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث أن من أنكرها غير جاهل ولا متأول فلا شبهة أنه يكفر بعد البيان والإيضاح والعرض على المحاكم الشرعية بدرجاتها المختلفة. وأضاف النجيمي: الفتاوى التي يصدرها العلماء بضوابطها الشرعية، هي فتاوى نظرية، وأما التطبيق على من تنطبق عليه هذه الفتاوى والأحكام فهذه وظيفة الدولة، فالمفتي يفتي، أما تطبيق الفتوى فمن اختصاص الدولة بأجهزتها الأمنية والقضائية، والتنفيذ لا يتم لأفراد ولكن من قبل المؤسسات المختصة بذلك في الدولة. وختم حديثه بأن هناك فرقاً بين المفتي المناط به الفتوى وبين القاضي الذي ينظر للمسألة كقاضٍ ويصدر فيها حكما عندما يصير نهائيا منوط بأجهزة التنفيذ المختصة تنفيذه. وحدة المصدر من جانب آخر أوجب الشيخ الدكتور أحمد بن حسين الموجان قاضي الاستئناف بديوان المظالم توحيد مصدر الفتوى في قضايا النوازل الكبرى والقضايا المختلف فيها، ويقول: مثل هذه القضايا ينبغي أن تصدر من جهة واحدة ومن موقع واحد لا غير وهي هيئة كبار العلماء لأن ولي الأمر أناط بهذه الهيئة تولي الفتاوى في مثل هذه الأمور الخاصة وكذلك في النوازل الكبرى لأن هيئة كبار العلماء هي الأعرف بالأدلة وبالموازنة بتلك الأدلة كما أنها أعرف بالأدلة المتفق عليها والأدلة المختلف عليها ولا يجب أن ننزل الأدلة المختلف فيها منزلة الأدلة المتفق عليها. وهذه الجهة الوحيدة الموكل إليها الإفتاء وولي الأمر أسند إليها ذلك وواجب العلماء أن يبينوا للناس الحكم الشرعي في النوازل العامة لأن الله سبحانه وتعالى أخذ عليهم العهد والميثاق ليبينونه للناس ولا يكتمونه، و( من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) كما قال ذلك الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم. وواجب طلبة العلم أن يسألوا العلماء فيما أشكل عليهم امتثالا لقول الله تعالى:"فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). وأردف الموجان بالقول: ولكن من المهم ألا يتصدى للفتوى من ليس أهلا لها وألا يفتى إلا بعلم ودليل من كتاب وسنة ،وأن تكون الموازنات بين الأدلة واضحة أمامه. والأمر منوط في ذلك كله بهيئة كبار العلماء فهي الجهة الوحيدة المختصة في تلك الأمور بالمملكة العربية السعودية لإصدار الفتاوى لحسم الخلافات الفقهية والإفتاء في كل ما يختص بأمور الشرع،لأنها هي الأعرف بالأدلة وتنزيل تلك الأدلة على الواقع المعاصر. وعاد ليؤكد أنه يجب ألا تنزل الأدلة المختلف عليها منزلة الأدلة المتفق عليها وإلزام الناس بها وهذا الخلط موجود في واقعنا ولكن يستطيع أن يبين ذلك الخلط والالتباس العلماء الراسخون الربانيون لأن عندهم فقه الموازنات وفقه الترجيح وفقه الأدلة ومعرفة المصالح والمفاسد وما يترتب عليها...وذلك كله موجود في هيئة كبار العلماء المناطة بمثل هذه الأمور. عصر الفتاوى ويرى الدكتور محمد العلي الأستاذ بكلية الشريعة في الإحساء صعوبة حسم الجدل حول القضايا الخلافية، ويقول: في تصوري يصعب ضبط الفتوى في هذا العصر، وذلك بسبب ثورة الاتصالات، حيث وفرت هذه الثورة منابر متعددة يستطيع صاحب كل رأي شاذ أن ينفذ منه، ويستطيع صاحب كل فتوى شاذة أو غريبة أو مثيرة أن ينشرها عبر تلك المنابر والمواقع المتعددة، فهناك الفضائيات التي يسعى بعضها لتبني تلك الآراء والفتاوى لأنها مثيرة للرأي العام، فتلك الفضائيات تبحث عن كل ما يثير بغض النظر عما يحدثه من بلبلة وفتنة، وهناك الشبكة العنكبوتية (الانترنت) حيث يتمكن هؤلاء من نشر فتاواهم ها في أي موقع ومن العسير جدا متابعة هذه المواقع. ويقول العلي هناك من يلجأ إلى تبني الآراء الشاذة والفتاوى الغريبة لأسباب متعددة؛ منها حب الشهرة والظهور، ومنها إحداث الإثارة والبلبلة، وقد يكون لبعض العلماء والمشايخ قناعتهم ببعض الآراء الشاذة والفتاوى المخالفة لرأي جمهور العلماء، وتجد أن هناك من يسعى لنشر رأي هذا العالم إما لتشويهه أو لضرب تيار فكري معين. وقول العلي: لا شك أن الفتاوى التي تصدر من المجامع الفقهية ومن مثل هيئة كبار العلماء في بلادنا أوثق وأقوى من الفتاوى الفردية، لذلك أدعو الهيئة والمجمع الفقهي لإصدار بيانات وفتاوى في القضايا التي يكثر حولها الجدل والخلاف، مثل قضية الاختلاط، لأن صدور هذه البيانات سيجعل كثيراً من الناس يتوقفون عن الخوض فيها وإثارتها، ولا أقول أن المسألة تحسم بهذه الصورة لكن ذلك يخفف الجدل والصراع الفقهي والاحتقان الفكري. الحل في المناظرات ومن جانبه يحمِّل الدكتور صالح بن مقبل العصيمي عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وعضو الجمعية الفقهية السعودية كل شخص مسؤولية ما يتفوه به، وقال: من المعلوم أن الإسلام حمّل كل إنسان مسؤولية ما يقوله شخصياً، وفي هذا الزمن بالذات زمن أصبح العالم كله قرية واحدة، فقد تستطيع دولة ما أن تضبط علماءها لكن هذا سوف يكون في حدودها فقط، في حين نرى أن هناك دولا لا تستطيع ضبطهم، فمصدر التلقي في السابق يتلقى الإنسان في بلده أو قريته أو مدينته دون أن تُتاح له فرصة سماع أقوال أخرى، لكن الآن في عالم الفضائيات والانترنت أصبح بمقدور الإنسان أن يبث فتواه في أي موقع من العالم فتصل إلى جميع الدول، لذلك لا تضبط الفتوى، وهي كما هو معلوم ليست ملزمة بل هي قول ورأي، فالعالم يقول ما يدين به لله سبحانه، فقد يحجب العالم في بلده ولذلك وجدنا في كثير من الدول بعض العلماء الممنوعين من الفتوى، لكن يستطيع هؤلاء أن يتحدثوا في الفضائيات والانترنت، بل حتى لو مُنع العالم فربما يكون قد أعد فتاواه في كتب فتنشر في حياته أو بعد مماته. لذلك فإن منع العلماء ليس حلاً وهو حجب لحرية الإنسان الذي له أن يقول ما يراه. ومضى العصيمي بالقول: نحن بحاجة إلى التوعية أما الحجب فليس له نفع، لذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يقول لمخالفيه :"أنتم مسؤولون عما تقولون ونحن مسؤولون عما نقول" فلا يحق لأحد أن يُكره أحداً على رأيه، فمن حقك أن تقول رأيك ومن حقي أن أقول رأيي ثم بعد ذلك تجتمع عند الله الخصوم، وبالعكس يجب أن يكون هناك متنفس للعلماء وطلبة العلم والناس فالله عز وجل يقول: "فألهمها فجورها وتقواها" وقال تعالى: "إنا هديناه النجدين" فأمامه الآراء والأدلة تُعرض ومن ثم بعد ذلك يأخذ ما يراه. البقاء للأقوى واستبعد العصيمي أن يكون للمرجعيات الدينية دور في إلزام الناس بقول واحد في المسائل الجدلية، وقال: ليس للمرجعيات حسم الجدل بحيث تصدر رأياً مُلزماً، فليس هناك أمر ملزم إلا ما أجمعت عليه الأمة، لكن لا شك أن هيئة كبار العلماء ورابطة العالم الإسلامي مسؤولية بأن تجمع الجميع ومعلوم مثلا أن هيئة كبار العلماء ليست جهة فتاوى عامة فلو وسعت صلاحياتها وأصبحت تناقش كل القضايا المطروحة فيمكن أن يكون لآرائها الفقهية قوة ومتانة بسبب كثرة وقوة العلماء المُشاركين، لكن الذي ألحظه في المنظمات الفقهية أنها تحتاج إلى نطاق أوسع ونشر أشمل، ودائما آراء المنظمات قوية لكن المشكلة أن أعضاء هذه المؤتمرات يشارك بها لكن القرار بالأغلبية، ولأن هناك موافقين على القرارات وهناك معارضون تكون هذه القرارات غير ملزمة، فالإسلام ليس فيه قول ملزم إلا ما فيه نص من الكتاب والسنة، فمتى نُشرت آراء هذه المجامع مستندة بالأدلة فإنها تعطي قوة، لكن مشكلتها أنها مقصرة في النشر ومنتجاتها ضعيفة من حيث الإخراج كما أن مؤلفات هذه المنظمات باهظة الثمن، لكن لو كان لهم قنوات تنشر آراءهم وتطرحها للعلماء فهذا جيد لكن لا نستطيع أن نُلزم أحداً، فالإسلام ليس فيه إلزام للإنسان على قول، فالدخان مثلاً عامة العلماء يقولون بتحريمه، لكن قد يأتي قائل ولا يقول بالتحريم! فهل تكره الجميع باتباع أحد القولين؟ فالله تعالى يقول: "لا إكراه في الدين" فإذا جاء من يبيح الدخان ومن يحرمه فكل طرف يطرح آراءه مدعومة بالأدلة فمن يريد الحق يتجرد من خلال الأدلة المطروح، فنحن نحتاج إلى تدعيم الأقوى بالأدلة. وختم العصيمي بالقول: الرأي الضعيف غير المستند للدليل لا يلبث أن يختفي، فدعوا الساحة للعلماء لإجراء مناظراتهم كما كان في السابق، وأنا أؤيد المناظرات الفقهية في القنوات الفضائية، فالمناظرات موجودة منذ القدم في بعض البلاد بحضرة الحاكم والعلماء وأحيانا أمام العامة لإبراز الحق. أما من يقول رأيه ثم يختفي فهذا رأيه ضعيف. الإنارة لا الإثارة وبدوره يرى الدكتور سعد الشهراني المدير التنفيذي للملتقى العالمي للعلماء والمفكرين المسلمين أن الفتنة نائمة والعلماء والأمراء عليهم واجب الصمود أمام هؤلاء المغرضين الذين يفتنون الناس ويصدونهم، وقال: للأسف بعض وسائل الإعلام تبرز الذين يبحثون عن الإثارة وتسلط الأضواء عليهم، وأصبح المقصود هو الإثارة وليس الإنارة، ولهذا يجب حقيقة على أولي الأمر أن يوجد تشريعاً ونظاماً يحاسب هؤلاء الذين يشيعون الفتنة والفاحشة كما قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ). وأضاف الشهراني: الفتنة حين تظهر يكون معها شيء من الشبهة يُضلل بها العوام والبسطاء ولذلك سميت فتنة والواجب على العلماء كشفها وإظهار حقيقتها وكشف عوارها وبطلانها بين الناس، ومن طبع المنافقين إشاعة الفتنة، وسيرة المنافقين في المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهراً فيها استخدامهم الفتنة في تمزيق المجتمع المدني ومحاولة إفشال دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن حين كان مجتمع النبي متماسكا وراسخ الإيمان لم تفلح محاولة المنافقين في زعزعة الأمن الداخلي بهذه الفتن، ولهذا نحن بحاجة لتقوية الجبهة الداخلية والتماسك و الوحدة تحت لواء الحق. حرارة العاطفة من جانب آخر يقول الشيخ صالح اللحيدان المستشار القضائي: فيما يتعلق بالفتاوى حسب ما نظرت إليه في مطولات وكتب الفروع خاصة كتب الحديث وأصول الفقه فإنها تنقسم إلى خمسة أقسام، القسم الأول يخص تلك التي تنص على المعضلات وقضايا الأمة فهذه الأولى والأحسن أن يتولاها كبار العلماء الذين يؤخذ بآرائهم بعيدا عن التعصب والفهم الخاطئ وإثارة الفتن، والقسم الثاني يختص بالمسائل التي وقع فيها الخلاف في أصول المسائل فهذه من الأولى أن يرجع فيها لكبار العلماء ولا ينظر فيها من هم دونهم على اعتبار أنهم تمكنوا من معرفة عامة الأدلة وضوابطها الثالث هي المسائل المستجدة التي تحتاج إلى قياس عقلي وتمثيلي براءة للذمة. ويستطرد اللحيدان بالقول: أما الحالة الرابعة فهي الفتاوى التي تضبط بضوابط معرفة الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد والعام والخاص وفهم اللغة ودلالة اللغة على المراد، والقسم الخامس هو الفتاوى التي غالبا ما تثير بعض اللغط فهذه يجب ألا تظهر أو تبين إلا بعد تمحيصها، فإن كان الضرر أكبر وأخطر يُسكت عنها، وإن كان الضرر أهون وأخف فيرجع فيها إلى كبار العلماء من حيث الاستشارة، وجاء في إعلام الموكلين وفي غيره من كتب الأحكام وسياسة الشريعة والأدلة أن عمر رضي الله عنه إذا حزبه أمر جمع إليه أصحاب بدر وهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار لكي يأخذ رأيهم بمثل هذه المسائل. أما الفتاوى فإني أمل أن يعاد فيها إلى ضوابط تقنية. ومضى قائلاً: قد يكون في بعض الفتاوى نوع من العجلة التي تصاحبها غالباً حرارة العاطفة، وقد يكون مع المفتي حق كامل، ولكن ليس من الأجدى أن يتفرد بالفتوى، بل لابد أن يجمع في فتواه فتاوى أخرى وأن يراجع أخوانه من العلماء سواء كان شاباً صغيراً أو رجلاً كبيراً لئلا يحصل ما هو عكس ذلك كما حصل في أوسط الدولة العباسية حينما أسئ إلى بعض العلماء والدعاة وتمخض عن هذا تراجع دور العلم لما يقارب مئة عام وتغير مكتبة الحكمة التي غيرها المأمون بعد أن أسسها هارون الرشيد.، وأنصح كافة العلماء والمفتين بأن يكون بينهم تواصل وتعاون، وأن يرتبطوا ارتباطاً وثيقاً فيما بينهم، سواء كانوا رسميين أو مستقلين لكي تجتمع العقول والآراء والعواطف اجتماعا واحدا ويبتعدوا عن كل ما في شأنه الفهم الخاطئ من قبل الطرف الآخر فيحدث أمر عكسي. ولا شك أن تقوى الله جل وعلا ومعرفة الأدلة وضوابط الأدلة وحقائق اللغة وما تدل عليه مابين أصول المسائل المعتبرة لتنزيل النصوص على الواقع من أهم الأمور وأيضا عند الردود يجب أن يتمسك المسلمون بتأصيل المسألة في الرد وتقعيدها دون النيل من شخصية هذا العالم أو ذاك، إنما يتم الحديث حول الفتوى لكن بشرط أن تكون لديهم خلفية متمكنة مع حسن الأدب والأسلوب والخلق.