* أبدع يوم أمس الزميل الدكتور عبدالعزيز الصويغ في مقاله عن الغباء وتسميته له ب»طوق النجاة». فبعد القصة المعبّرة عن الثلاثي الذي واجه المقصلة حكماً بالإعدام، رجل الدِّين، والمحامي، والفيزيائي لم يفقد حياته سوى الفيزيائي لمعرفته بخلل وسبب عدم نزول المقصلة على رقاب سابقيه! خلص الدكتور الصويغ إلى العبرة التي يجب أن يستفيدها البعض وخاصة الكُتَّاب من القصة. والخلاصة في ظنّي واحدة من روائع ما كُتب مُؤخَّراً؛ لأنها تصوّر واقعاً حياتياً يعيشه مجتمعنا المحلي. * يقول الصويغ: ”أمَّا العبرة من هذه الحكاية فهي أنه من الأفضل لك أن تبقي فمك مقفلاً أحياناً، حتى وإن كنت تعرف الحقيقة، فالغباء هو طوق النجاة.. والسكوت هو علامة الرضا. والراضي كالقاضي ما أحلاه عندما يكون فاضي“. * الروعة في مضامين هكذا سطور ليس فقط تصويرها الواقع المعاش في مجتمعنا في زمننا هذا، بل تأكيدها على أن الغباء وهو صفة مذمومة وقبيحة يستنكف منها الأصحاء، أصبح ميزة ومطلباً مجتمعياً ممَّا يدلل على شذوذية ما يحدث وغرابته. * وإن كانت القصة معبّرة، ولها من الدلالات والمعاني والرسائل التربوية الكثير، فلا أحسب أو هكذا أظن أن مجتمعا بشرياً سليماً وصحياً يقبل تغيير المفاهيم لمبادئ وأخلاقيات سلوكية بغير معانيها ودلالاتها الحقيقية. فالنزاهة والأمانة والصدق والإخلاص في العمل لا يمكن بأي حال من الأحوال تحويرها إلى فهلوة وشطارة وحرفنة تسيير أمور. * كما أن الرشوة بأي شكل تغلّفت لا يمكن أن تُحور إلى مجرد هدايا وعمولة، وتسهيل إجراءات.. فالقرآن والسنة وتعاليم الشريعة أنكرت بشدة هكذا أفعال لما فيها من سلب لحقوق الآخرين، ولما فيها من إفساد ليس فقط للأفراد، بل وللمجتمعات وبنائها العام بأسره. ولكن وكما في عبرة القصة فالقوانين المُحتَّمة والتي لا تعرف أنصاف الإجابات أو الفذلكات اللفظية أعدمت صاحب الحقيقة وأبقت الغافلين والصامتين. * وخطورة ترديد هكذا قصة احتمالية تحوّلها إلى قانون مجتمعي طبيعي، يجعل الناشئة والشباب يؤمنون بجزمية الفهلوة والشطارة واللعب على كل الحبال لتسيير أمورهم، وتقدمهم في السلم الحياتي وتحقيق طموحاتهم. وهذا بعكس القوانين الفيزيائية التي أوجدها الحق سبحانه وتعالى لسيرورة الحياة. فإن ساد الباطل، وإن انتعشت السلبيات لفترة من الزمن لسبب أو آخر، فإن ديمومتها من مستحيلات الحياة. فالمجتمعات الحية لا تقبل الاندثار أو الانهيار خاصة في ظل معرفتها بأسباب ذلك، والتي يأتي في مقدمتها عوامل الفساد من رشوة، وقلة أمانة، وفهلوة، ولعب ثلاث ورقات، وأول ما تفعله تلك المجتمعات هو وأد لكل مَن ساهم في تخلّفها أو تبطئة مسيرتها وله معها حساب عسير، يستعصى على النسيان، وسيعود الفضلاء والأخلاقيون والراسخون في مبادئهم إلى الواجهة المشرقة لمقدمات الصفحات، وبنصاعة لن يعكرها وضيع أو متسلّق.