• هو هكذا الصديق أحمد العرفج مشاكس في كتاباته، لا يهدأ له بال إلَّا بإثارة غبار الفكر في الأدمغة المتكلّسة والذوات الخاملة. وهو لذلك يمتطي صهوة المعارك في ميادين الرأي، ناقداً بأدب وفن لغوي رفيع موضوعاً من هنا، أو نابشاً ومستفزاً لمؤيدين لهذا أو ذاك. • في مقالته يوم أمس الخميس أراد العرفج بلغته البهلوانية الرفيعة أن يستفز المؤرخين للدفاع عن حياضاتهم المعرفية ضد مقولة الزميل فهد الشريف، الذي شكك في مرويات المؤرخين على إجمالها. ولمَّا يدرك العرفج أن المؤرخين قادرون على صد أي اعتداءات خارجية حتى وإن كانت من أعزاء مثل الشريف والعرفج أورد بعضاً من أسماء مَن يدخلون في زمرة المؤرخين. • كنتُ قبل قراءتي للاستفزازات العرفجية أُمتّع نفسي بقراءة الحزن الضروري الأبيض للعرفج ذاته في ملحق الأربعاء، فقلت في نفسي: سبحان الله، ربما يكون هذا التزامن نوعاً من الكرامة، فمقولة الشريف، وتأكيد العرفج ليست سوى حزن ضروري لكل مَن ينتسب إلى التاريخ، حتى وإن كان الحزن فلسفة حياتية، أو من مركبات الإنسان وله لون أبيض بحسب العرفج. • الحزن الضروري يخيّم في أيامنا هذه على أهل التاريخ بخاصة والعلوم الإنسانية بعامة، وذلك عطفاً على الرؤية المجتمعية التي لم تقتصر فقط على التشكيك في المرويات التاريخية، بل نفت عنه العلمية والأهمية، وأبعدت قسراً العلوم الإنسانية إلى مكان مظلم وقصي من ذهنيتها. • فالعلوم الإنسانية تعيش أيامنا هذه حرباً ضروساً وشعواء من جهات عدة بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل. ففي الجامعات مثلاً تشهد التخصصات الإنسانية تجفيفاً مخيفاً يهدف إلى إلغائها كلية. والتاريخ ليس سوى أحد تلك التخصصات. والمفزع أن بلداً مثل بلدنا له من التاريخ ما تنوء بحمله الجبال، يجد جحوداً عجيباً في مسخ ذلك التاريخ وإقصائه بغير وعي، وكأنه هامش معرفي غير ذي قيمة. • وهكذا حال يجد له من المؤيدين والمناصرين من وجهاء مجتمع وكُتَّاب التأييد والنصرة حتى وإن كانوا لا يدركون ما يتحدثون عنه، أو يعون خطورة نتائجه المستقبلية. فقيمة التخصصات المعرفية إنسانية، أو تطبيقية لا يُقيّمها أو يحكمها العرض والطلب في سوق العمالة والتي أصبحت النغمة المسيطرة مؤخراً في فضائنا المجتمعي. • حتى اليوم وإلى ما بعد اليوم لا أعرف، ولا يمكن أن أدرك أو أستوعب إمكانية إلغاء تدريس مواد تاريخية مثل السيرة النبوية أو التاريخ الوطني للمملكة. نعم يا سادة في بعض جامعاتنا، وبعد أن كانت مادة تاريخ المملكة تُدرَّس كمتطلب أُلغيت كليةً بحجة عدم الاحتياج لها، بينما في دولة تمتلك قيادة العالم وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية تُفرض دراسة التاريخ الأمريكي في كل المراحل الدراسية، وحتّى على الراغبين في التجنس. فسامح الله العرفج على استفزازه، ولولا المساحة لأفرغت حزني الضروري في معلقات نثرية.