ان مصطلح “الدولة” يستخدم في أدبيات من ينسبون انفسهم للدعوة او الوعظ، وهم يريدون به “الحكومة”، والحقيقة ان الدولة هي فكرة من ناحية، وهي كيان له وجود وسلطة، وهي تتنوع اشكالها وتعرف: بأنها مجموعة من البشر يرتبطون في ما بينهم بروابط معينة، ويقيمون على اقليم معين، ويخضعون لنظام وسلطة معينين، فهي تتكون من هذه الثلاثة: المجموعة التي تسمى شعباً ويربطها ببعضها لغة ودين وتاريخ ومصالح مشتركة، واقليم يمثل الارض التي يقوم عليه كيانها، وسلطة هي في الواقع المعاصر سلطات في الدولة الحديثة ثلاث:سلطة تنفيذية هي ما نسميه الحكومة، وسلطة تشريعية أو تنظيمية يمثلها مجلس النواب أو الشورى، وسلطة قضائية تفصل في الخصومات، وهذه السلطات الثلاث يشترط لها الاستقلالية، لتؤدي دورها المنوط بها على اكمل وجه، ولهذا عندما يتحدث أحد عن الدولة بمعنى الحكومة فهو يستخدم هذا المصطلح خطأ، وفي غير ما يدل عليه من معنى، وقد استمعنا الى حوار بين الأخوين الاستاذ عوض القرني، والاستاذ جمال خاشقجي، في قناة الدليل، حضر فيه تقسيمنا الى اسلاميين وسواهم، وترسخ فيه خطاب الفرقة نحن وأنتم، تيارنا وتياركم، مما هو جدل يسود ساحتنا احياناً وحتما لا يعود على مجتمعنا بخير، ولحمة هذا الجدل وسواه سوء ظن، ومحاولة اقصاء، وتهم باطلة، واستبداد برأي، وسمعنا الاخ عوض القرني يدعي لتياره الذي اختار الانتساب اليه الدين والدنيا، حتى انه رأى ان انتقادات الصحف للاخطاء سواء أكانت في مناهج التعليم أو في اداء موظفي هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في ما يصدر عن القضاء من احكام تعزيرية انما هي تنفيذ لمؤامرة حيكت في الغرب والتقطها - بزعمه - في الداخل صحفيون وكتاب وبنوا عليها، فلما ذُكر بأن هناك خطوات متلاحقة لاصلاح هذه الاخطاء في سائر هذه المجالات وغيرها، مما يدل على وجود ما يقتضي الاصلاح، لا استجابة كما ادعى لمطالب خارجية، كانت المفاجاة حيث قال:(ان الدولة تحني رأسها احياناً لتمر العاصفة، ولكنه متأكد ان الامور سترجع الى ما كانت عليه سابقاً )وان لديه معلومات بذلك أكيدة، وحتما ان الدولة بالمفهوم الذي ذكرنا لا يتصور منها ان تحني رأسها لباطل يتصوره الاخ عوض او غيره، كما ان ثقتنا في حكومة بلادنا انها لا تصنع مثل هذا ابداً، ونظرية المؤامرة التي يشغلنا بها البعض، لن تجدي نفعا في مواجهة مشكلاتنا، فالمعلوم بداهة أن التآمر لا يكون من القوي الذي إن اراد فَعل، فقوته المادية والمعنوية تهيء له أن يحصل على ما يريد دون مؤامرة، وقد تتصور المؤامرة من الأضعف، الذي لا يستطيع التوصل إلى ما يريد إلا بشيء من الحيلة، والذي لا أحد يشك فيه أننا كمسلمين اليوم الجانب الأضعف في هذا العالم، والغرب في عنفوانه هو الأقوى، والسؤال الذي يفرض نفسه ما حاجته إلى أن يتآمر علينا حتى في ما هو من شؤوننا الداخلية التي حتما لا تعنيهم وتعتريها عندنا من المشكلات ما لا مزيد عليه، وتحتاج منا إلى عمل جاد لإيجاد حلول حاسمة لها، وقد نفيد في حلها من تجارب الغرب في نفس المجال، ولكنا حتما لا نستنسخ بالكلية حلوله، فظروفنا تختلف عن ظروفه وثقافتنا ليست كثقافته، وأما إذا عشنا دوماً تحت هاجس المؤامرة، فإن هذا سيعطل حراكنا نحو المستقبل، لاعتقادنا أننا لسنا المسؤولين عن مشاكلنا، فهي مفروضة علينا من الخارج، الذي في المحصلة النهائية لا قدرة لنا على مواجهته تحت ظل الظروف التي نعيش فيها، ولن يعدم مرتاب منا أن يجد في كل خطوة نتخذها من أجل النهوض ببلادنا ملمحا يخترعه لمؤامرة يدعي أن الغرب أو الشرق غير المسلم قد حبكها لمواجهة ديننا أو نهب ثرواتنا أو الاستيلاء على أوطاننا، وإن تخيل له أوهامه تخوين من لا يحب من أهل وطنه فيزعم أنهم يعينون الغرب على تنفيذ مؤامراته التي لم يخترعها سواه، خاصة إذا كان المخترع لا صلة له بالواقع ولا يدرك شيئا مما يجري في هذا العالم، وحلوله التي يدعيها، إنما يستدعيها من زمن مختلف مضى، كان لأهله اجتهادات حسب ظروف عصرهم، ولما كان يقع في مجتمعاتهم من مشكلات، لم يعد لها وجود في عصرنا، وما أكثر هذا الصنف الذين لا يزالون يقيسون أحوالنا على أحوال من عاشوا في العصرين الاموي والعباسي، ولا يستطيع أحد أن يقنعهم أن الظرف مختلف، وأن ما صلح لتلك العصور من حلول لمشكلات فيه لا يصلح لحل مشكلات عصرنا، وإن اسلوب الاتهام الذي لا يقوم على دليل فادح الضرر بصاحبه الذي اطلقه أكثر من ضرر من وجهت اليه التهمة، فالزمن كفيل بكشف زيف الاتهام العاري عن دليل، فالتصور أن في هذه البلاد من الصحفيين والكتاب السعوديين من له علاقة تآمرية بالخارج (الغرب تحديداً وعلى الأخص الولاياتالمتحدةالأمريكية)، ويزعم أنه يأتمر بأمره وينفذ له أجندة مؤامراته كما يردد هؤلاء، إنما هو وهم يراد به تشتيت الأذهان عن قضايا أخطر، يوجدها في فكر المؤامرة وما يدفع إليه من غلو وتشدد، ولهذا فهم يرددون هذه التهم ولا يعينون أحدا بالاسم، ولو عينوه فأقام عليهم الدعوى في المحاكم، وطولبوا بالبينة على ما يقولون لثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم واهمون، وإنهم إنما يستخدمون ذلك كسلاح للضغط على من يختلفون معه عله يربكه ويسيء إليه. إن مثل هذا الفكر الاتهامي إذا تطاول به الزمن شق صفنا وأورث بعضنا عداوة البعض الآخر فأدى ذلك إلى فتنة لا يعلم إلا الله مدى خطرها، فهلا أدركنا هذا هو ما أرجوه والله ولي التوفيق.