عبّر أبناء الأديب المؤرخ الراحل عاتق البلادي، الذي انتقل إلى رحمة الله يوم أمس الأول، عن بالغ حزنهم برحيله، مؤكدين أنه كان القدوة لهم علما وعملا، وتأثيره فيهم سيظل عميقا ودائما. وقال ابنه المهندس حسين عاتق (50 عاما): لقد تفاجأنا بوفاة الوالد أمس الأول بعد تعرضه لنزيف داخلي كما يؤكد ذلك الأطباء وكان في السنة الأخيرة من عمره يعاني من متاعب صحية لكنها لم تثنه عن مواصلة البحث وإن ركز جل اهتمامه في تلك السنة على القراءة بشكل كبير مخففا من الكتابة بل توقف عنها. وعن جهوده في التأليف قال: هي كبيرة جدا ومع كثرة مؤلفاته لا أحصي كم هي عدد مؤلفاته وكتبه ويصل المؤلف الواحد أحيانا إلى 10 مجلدات كمعجم “معالم الحجاز”. أبواب منزله مفتوحة فيما قال ابنه مسلط (الثالث في ترتيب أبنائه) بحزن شديد: لقد كان والدي شجرة مظللة علينا جميعا، أبوة وعلما وتأديبا وتأسيا به رحمه الله، وكان له بالغ الأثر في حياتنا كلنا، علّمنا وربّانا أحسن علم وتربية وكان معروفا لدى أقربائه ومحبيه بإعانته للملهوف وقضاء حوائج المحتاجين فضلا عن أبواب منزله المفتوحة لكل طالب علم ومريد معرفة.. لقد بنى والدي نفسه بنفسه.. كان يتيما خرج ماشيا من قريته (خليص) وهو ابن العاشرة من عمره متجها إلى مكةالمكرمة لا يملك سوى كسائه الذي يرتديه.. يقسّم يومه بين طلب العلم في المسجد الحرام وبين تلبية متطلبات المعيشة.. فعمل في نقل الأحجار وحمل الأثقال والبناء وما شابهها ولم تلهه تلك الحياة عن طلب العلم بل درس وتعلم حتى أصبح علاّمة يحمل شهادة الدكتوراة ويشار له بالبنان.. لقد أثّر فينا تأثيرا بليغا في تعليمه ورعايته واهتمامه بنا.. وفي السنة الأخيرة من عمره بعد المشاكل الصحية التي تعرض لها كان يعكف على القراءة.. قراءة ما ألّفه في شبابه ومراجعته وتنقيحه، وتوجد لدينا الآن مخطوطات بخط يده فرغ منها مؤخرا قبل وفاته، ونحن أبناؤه بصدد جمعها ومحاولة إضافتها على مؤلفاته القديمة التي ألّف بعضها قبل 40 سنة. برنامجه اليومي وعن برنامجه اليومي المعتاد له في القراءة والتأليف قال كل من ابنيه حسين ومسلط وابن اخته وصهره حسن خلف أنه كان ينام مبكرا بعد صلاة العشاء ويصحو مبكرا ليصلي ثم ينام قليلا فيتناول طعام الإفطار ثم يعكف بعدها على القراءة والتأليف، وكانت فترة الضحى من الأوقات التي يحرص فيها على القراءة والبحث والاطلاع والتأليف حتى الظهر ليأخذ قسط من الراحة ويعيد الكرة في القراءة والتأليف بعد العصر، وكان يخصّص الوقت ما بين المغرب والعشاء لاستقبال الضيوف والزوار والأقرباء. وعن وجود أحد من ابنائه انتهج نهج والده في البحث أشاروا جميعا أن والدهم قامة لن تُدرك، وليس فيهم من نهج نهجه في البحث والتأليف لانشغالهم جميعا بوظائفهم الحكومية. موقف إنساني وعن أبرز المواقف تأثيرا في حياة أحد أبنائه قال مسلط: هناك موقف لازلت أذكره أثّر فينا أثرا بالغا فقد رأيت صورة إنسانية في والدي حين وفاة أخي الكبير غيث قبل 4 سنوات وكان والدي قد اكتسب من المجال العسكري شدة في عدل فكان شديدا وعادلا ومع عطفه وحنانه علينا إلا أنه كان صارما مع أبنائه خاصة الذكور منهم فلم أره قط متأثرا باكيا في حياته كيوم وفاة أخي غيث فرأينا منه وجها غير الوجه الذي كنا نعهده منه ونعرفه عنه رحمه الله ذلك الوجه الآخر الذي كان يخفيه عنا طوال حياته (رأيناه باكيا حنونا عطوفا) رغم أن وفاة أخي كان على كبر (45 عاما). وعدّ الابن حسين كتاب “أمثال الشعر العربي” أروع ما كتبه والده من بين مؤلفاته الكثيرة لأنه جعل الفقيد يضطر لأن يقرأ كل دواوين الشعر العربي بدءا من الشاعر الجاهلي امرئ القيس حتى عهد الشاعر البهاء زهير باستثناء شعر ابي نواس الذي رفض قراءته لتحفظه عليه أخلاقا مما حدا به أن يطلب مني أن أقرأ شعر أبي نواس وقد كنت صغيرا لأستخرج منها ما قد يصلح أن يكون مثلا، كان والدي موسوعة في ضرب الأمثال في الشعر العربي فلا يكاد يرد مثل إلا ويتبعه بمثل في سلسلة مترابطة. كما أشار أبناؤه إلى براعة والدهم أدبياً، فقد كان قاصا مبدعا وروائيا بارعا، ألّف كتابا اسماه “سنوات الحصاد” يحوي سيرته بأسلوب قصصي مشوق جدا، ذكر فيها معاناته حينما خرج من قريته صغيرا طالبا للعلم وباحثا عن لقمة العيش. وعن الصفات الأخرى من حياته قال حسن خلف البلادي: كان يرعى صغار الكتّاب ويهتم بهم اهتماما كبيرا وأعرف كثيرا منهم كان يتوافدون عليه يطلبون منه كيفية البحث وطرقه وكيفية الخطوات التي لا بد من فعلها مع التأليف والكتابة وهم لا يزالون يدينون بالفضل له بعد الله في تعليمهم ورعايتهم. وصيته قبل وفاته كان يوصي دائما قبل وفاته بالتعجيل بدفنه حين موته والصلاة عليه في المسجد الحرام حتى وهو في اللحظات الأخيرة من حياته وعلى فراش الموت. ولشدة رغبته الملحة للموت في مكة رفض كل الطلبات التي وُجهت إليه من المراكز الطبية المتقدمة في داخل المملكة وخارجها للعلاج فيها خشية أن تلفظ روحه هناك قبل عودته إلى بلد الله الحرام مكةالمكرمة.