لم يشرح أحد السبب الذي دفع ببكين إلى إرسال أحد موظفيها ضمن الوفد الذي ترأسه رئيس الوزراء الصيني في قمة كوبنهاجن، التي عقدت مؤخراْ لبحث المخاطر على البيئة، وكان الدور الذي تولاه هو الصراخ في وجه الرئيس الأميركي، باراك اوباما، ورفع أصبعه في اتجاهه، مرتين خلال لقاء القمة في المؤتمر، ولم يتطوع أحد بترجمة ما قاله ذلك الموظف باللغة الصينية لأن رئيس الوزراء الصيني طلب من المترجم عدم ترجمة ما قاله .. إلا أن هذه الحادثة أشارت إلى مدى اضطراب العلاقات القائمة بين الصين وأميركا هذه الأيام والقلق الذي يسود الأوساط السياسية في البلدين من نية كل منهما تجاه الآخر. الجدل العلني الذي أثاره قرار إدارة اوباما بيع تايوان أسلحة متقدمة بقيمة ستة بلايين دولار وإعلان البيت الأبيض عن نية الرئيس الأميركي الالتقاء بالدالاي لاما، الزعيم الروحي للتيبت، لم يكن بسبب اللقاء المتوتر في كوبنهاجن، وإنما نتيجة لعدم الثقة التي تسود العلاقات بين بكينوواشنطن وانعكاس لمدى الإحباط الذي يشعر به الأميركيون لعجزهم عن جر الصين إلى تبني السياسات ( الديمقراطية ) بالأسلوب الغربي الذي سعوا طويلاْ إليه، وتزايد اعتمادهم على الاقتصاد الصيني في تسريع وتيرة خروجهم من الأزمة الاقتصادية التي يعيشونها .. بينما ينظر الصينيون بقلق إلى ما يعتقدون أنه مؤامرة تحيكها واشنطن ومعها المجتمع الغربي لإسقاط النظام وتحويل البلاد إلى تابع للغرب، أو جزء منه. وهناك من يتساءل إلى أين سيؤدي الخلاف الصيني الأميركي، وما هو تأثيره على باقي دول العالم، بما فيها دول العالم الثالث ؟ .. من المؤكد أن ما نشهده اليوم هو حرب باردة جديدة فيما بين عملاقين اقتصاديين .. إلا أن تاريخ هذه العلاقة أشد تعقيداْ مما كان عليه الأمر عندما كان الإتحاد السوفيتي هو العملاق الآخر، فالترابط في المصالح الاقتصادية بين البلدين أكثر عمقاْ، وليست المصلحة الاقتصادية في اتجاه واحد بل أنها مصلحة متبادلة وكل منهما بحاجة إلى الآخر لتحقيق أهدافه الاقتصادية .. إذ أن ستين بالمائة تقريباْ من الصادرات الصينية إلى أميركا تنتجها مؤسسات صينيه تملكها شركات أميركية بينما تملك الصين سندات خزينة أمريكية بما يوازي أربعة وستين بليون دولار، ولازالت تشتري المزيد من هذه السندات، وإن كان بكميات أقل نسبياْ عما كانت عليه في السابق. أميركا انفتحت على الصين في السبعينات الميلادية حرصاْ منها على ضم العملاق الصيني إلى صفها في مواجهة الهيمنة السوفيتية في آسيا، وسارع الصينيون إلى استغلال الفرصة لبناء اقتصادهم، وشجع الأميركيون منظمة التجارة العالمية لقبول الصين عام 2001، طمعاً في فتح أسواقها، وأدى ذلك بالفعل إلى ارتفاع الصادرات الصينية إلى مختلف أنحاء العالم بما معدله (29) بالمائة سنوياْ خلال الأعوام من 2002 إلى 2007 .. وأعتقد الأميركيون حينها أن ذلك سيؤدي إلى تبني الصين النظام السياسي الغربي، بينما حرص الصينيون على إتباع سياسة خاصة بهم هي خليط من الماركسية والرأسمالية، ونجحوا في تطوير بلدهم عبرها خلال الثلاثين عاماً الماضية. وسعت بعض القيادات الأوروبية، وخاصة الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، إلى سلوك سياسة مستقلة عن أميركا تجاه الصين، ورغب الأوروبيون، بما فيهم ألمانيا، في إنشاء تكتل جديد يضم أوروبا وروسيا والصين لتكون قوة واحدة في مواجهة الهيمنة الأميركية الواحدة على العالم .. إلا أن الصينيين لم يكونوا يثقون بالأوروبيين أيضاْ الذين كانوا يدفعونهم إلى تغيير نظامهم السياسي. الخلاف القائم الآن حول جوجل وكوبنهاجن ومبيعات السلاح لتايوان والدالاي لاما وإيران ليس هو الوحيد الذي يقلق الأمريكيين، بل إن تطور القدرات التكنولوجية الصينية هي أكثر الأمور إثارة لريبتهم من الصين وخاصة في مجال الإنترنت .. ونشرت مجلة ( الفورين أفيرز ) الأميركية في عددها عن شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين مقالاْ كتبه كل من الجنرال ويزلي كلارك، قائد قوات حلف الناتو السابق، وبيتر ليفين، باحث في مجال الأمن الألكتروني، يتحدث عن المخاطر التي تتعرض لها أميركا والسبيل إلى حمايتها، ويقول إن أميركا تعرضت لحوالي أربعة وأربعين ألف حادثة هجوم إلكتروني خلال عام 2007، يعتقد أن حكومات أجنبية تقف خلفها، وأن الإنترنت يجعل من السهل على أي حكومة أن تصيب أميركا بالانهيار بدون أن تحرك جيشها وذلك عبر تعطيل الحواسب ( الكمبيوترات ) للقوات المسلحة والكهرباء والماء والطيران وغيرها، وكمثال على نوع هذه الهجمات ذكر المقال حادثة وقعت عام 1982م، إذ انفجرت الأنابيب التي تنقل الغاز الروسي عبر سيبريا، وأن الانفجار كان من القوة بحيث شوهد من الفضاء الخارجي،وأن الكاتب ويليام سافاير كتب في (النيويورك تايمز ) الأميركية بعد عشرين سنه من ذلك الحادث يقول أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية قامت بتنفيذ هذا الهجوم الذي عطل نقل الغاز في تلك المنطقة وذلك عبر الإنترنت . من المؤكد أننا سنشاهد تطورات أخرى في العلاقات المتوترة الحالية بين الصين وأميركا، ومن المتوقع أن يسعى كل من هذين الطرفين إلى كسب حلفاء له في هذا الصراع، وستجد دول العالم الثالث، ونحن منها، نفسها مطالبة بالوقوف في هذا الصف أو الآخر .. ولن يكون في مصلحتنا الوقوف إلى جانب أي منهما، وإن كان النموذج الصيني السياسي والاقتصادي هو الأقرب إلى قلوب العالم الثالث، بالإضافة إلى أن المستقبل الاقتصادي للدول المنتجة للبترول يميل إلى الكفة الصينية التي ستواصل الاستفادة من البترول في الوقت الذي تتقلص فيه حاجة الغرب إليه. الشهور القادمة، وليس السنوات، ستشهد تطورات مثيره في علاقة أوروبا وأميركا من ناحية والصين من ناحية أخرى .. وهي علاقة صراع لن يكون فيه منتصر بل سيكتشف الجميع أن لابد من التعايش مع بعضهم البعض راضين أم مرغمين.