حين يرحل العلماء والشيوخ والاساتذة .. يبكي التلاميذ لأنهم دائما الاقرب للمعلم والأفيد من تعاليمه . حين نفتقد جيل الاساتذة نشعر بخيبة أمل في القادم المشوش لان هؤلاء العلماء علّمونا من صفاء ونقاء الشريعة والقادم الله به اعلم . حين تفتتن الحياة وتتداخل القيم وتسلط الاهواء ويصبح الدين محل تساؤل والاخلاق حالة من الملل والعقيدة جزءا من الاتهام، ساعتها ندرك قيمة أوتاد العلم ومعنى رحيلهم وأنهم حوائط صدّ ضد الجهل والجاهلية وضد افتتان الانسان بما وهبه الله من عطايا ، ساعتها ندرك قيمة ذلك الشيخ العالم الجالس في بهو المسجد يعلّم الناس الرسوخ في العلم والثقة بالله واليقين بالنفس المطمئنة التي لا تزهو بها عين الحياة . وحين يرحل واحد من أكبر علماء المدينة " مدينة النبي محمد صلى الله عليه وسلم " فان الامر يستوجب التوقف اذا كان العالم كبيرهم وأقدمهم في الإمامة في المسجد النبوي والتدريس فيه، حين يرحل عالم مثل الشيخ محمد بن علي بن محمد ثاني رحمه الله، الذي توفي الشهر الماضي، بعد أن قضى خمسين عاماً في التدريس في المسجد النبوي الشريف، وأربعين في التعليم في وزارة التربية والتعليم (المعارف)، وسبعة عشر عاماً في إمامة المصلين في الحرم النبوي،فان الامر يستوجب التوقف لاننا فقدنا بموته وفقدت مدينة رسول الله شيخاً وعالماً جليلاً من الرعيل الأول، وممن خدم المدينة وأهلها بالتعليم والإمامة والدعوة والإرشاد، وفقدت حلقات المسجد النبوي ذلك الشيخ الحاني والأب العطوف الذي أفنى عمره في العلم والتعليم. فالشيخ الذي ولد في المدينةالمنورة في مطلع شهر شوال عام 1339ه وعاش طفولته المبكرة في عصر حكم الأشراف للمدينة المنورة.بدأ حياته التعليمية في كتّاب الشيخ محمد سالم، ثم التحق بمدرسة العلوم الشرعية, وكان مؤسسها و مديرها السيد أحمد الفيض أبادي. وكان من بين المعلمين في ذلك العصر الذين تتلمذ عليهم: الشيخ حسن تاج الدين والشيخ عمر الطرابلسي والشيخ أحمد التونسي والشيخ محمود أبو بكر الفلاني والشيخ عمر توفيق رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته. وكان الشيخ ثاني قد حفظ القرآن الكريم وهو في الثانية عشرة من عمره, وكان شيخه علي السمان، وتخرج في مدرسة العلوم الشرعية, و حصل على الشهادة العالية عام 1361ه، ثم واصل تعليمه في رحاب المسجد النبوي الشريف علي العديد من المشايخ وهم: الشيخ محمد تكر والشيخ محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري والشيخ محمد بن علي بن عبد الله الحركان ( وزير العدل آنذاك) وحصل منه علي إجازة علمية في علوم التفسير والحديث والفقه على طريقة علماء المسلمين المتقدمين بعد دراسة لسنوات طويلة في عام 1393ه. وعمل الشيخ مدرساً في مدرسة العلوم الشرعية بعد تخرجه منها، وفي عام 1362ه عُيّن مدرساً في مدرسة شقراء الابتدائية الحكومية في منطقة نجد, وعمل فيها حتى عام 1364ه ودرس معه الشيخ عبدالمجيد حسن الجبرتي إمام وخطيب المسجد النبوي والقاضي في محكمة المدينةالمنورة، والشيخ عبد الله الخربوش إمام المسجد النبوي والموجّه التربوي للعلوم الدينية بتعليم المدينة والشيخ إسحاق الكردي والشيخ سويلم نافع. بعد ذلك درّس في مدرسة دار الأيتام بالمدينةالمنورة من عام 1365 إلى عام 1368ه، ثم عمل مدرساً بالمدرسة المنصورية الابتدائية التابعة لمديرية التعليم من عام 1368 إلي 1373ه، ثم عيّن مدرساً في مدرسة طيبة الثانوية في عام 1374ه وفي عام 1378ه انتقل إلى متوسطة أبي بكر الصديق ودرّس فيها حتى عام 1383ه. بعد ذلك عاد إلى التدريس لمدرسة طيبة الثانوية عام 1382 وواصل التدريس فيها حتى تقاعد في عام 1399ه بعد عمل في التعليم مدة سبعة و ثلاثين عاماً. ومن المواد التي كان يدرّسها مواد اللغة العربية ومقررات التوحيد والحديث والفقه في المراحل التعليمية المختلفة. بدأ الشيخ ثاني التدريس في المسجد النبوي من عام 1373ه بتكليف من سماحة الشيخ عبد العزيز بن صالح رئيس المحاكم الشرعية و إمام وخطيب المسجد النبوي. ومن بين الكتب التي درسها في حلقاته العلمية: الأجرومية في النحو وقطر الندى وألفية بن مالك وتفسير ابن كثير وسبل السلام وعمدة الأحكام وفتح الباري وصحيح مسلم وسنن أبي داود و موطأ مالك ونيل الأوطار، وشارك في لجان توعية الحجاج في المدينةالمنورة و في المشاعر المقدسة في مكةالمكرمة. وفي عام 1396 تشرّف بإمامة المسلمين في المسجد النبوي الشريف بتكليف من سماحة الشيخ عبد العزيز بن صالح, وكان إماماً محتسباً حتى عام 1414ه. وواصل التدريس في المسجد النبوي, كما كان عضواً في لجنة الإشراف حتى مرضه في عام 1427ه.