سيادة العقل المثقف تقود الأمم الواعية إلى التفاعل مع الحياة فالفكر الواعي هو الفكر المرتكز على ثوابت معرفية تتأصل في ثناياها معطيات الإيمان الراسخ الذي يمد العقل بما يحقق سبيل التطور والإسهام الحضاري الفاعل في الحراك المعرفي والتنموي والإبداعي، وفي ظل معطيات الحياة المعاصرة التي تضاعفت فيها وسائل المعلومات وتكاتفت فيها مصادر التوثيق العلمي على نحو يدفع العقل لمعانقة بواعث المعرفة بحسب السبيل الأمثل لتجاوز حالات الجمود وتحسين روح العطاء للحيلولة دون تحلل البنية المعرفية وذوبان مكوناتها. فصناع الوعي الثقافي المنضبط يدركون كم هي المسافة بين الفكر المعرفي الذي يتيح قدراً كبيراً من الفاعلية لاستيعاب متغيرات العصر دون المساس بالثوابت والأطر العقدية المنبثقة من أسس الشرع الحكيم وبين التقوقع حول الرواكد المسيطرة على المفاهيم التي لا تستطيع استيعاب التحولات المادية والسير في الركب الحضاري فنجم عن ذلك (فكر الإنغلاق). والإشكالية الثقافية اليوم قد تكون في عدم قدرة صناع الوعي الثقافي في إحداث نقلة فكرية تقوم على أساس إرادة تمتلك الثقة المطلقة بإمكانات وتراث الأمة والانفتاح المنظم الذي يُزكي روح التجديد والإبداع دون أن يتحول التجديد الثقافي إلى حالة من المسخ والذوبان في النسق المعرفي للآخر وبالتالي فقد الهوية الفكرية. فلا بد من وجود اتجاه يحقق نوعاً من الموازنة بين الواقع والمأمول والشمولية للوعي الثقافي كمنظومة تحمل كل مقومات الرقي الحضاري بمعنى أن تكون التنمية الفكرية للمجتمع ذات كفاءة وفاعلية ومرونة بحيث يدرك كل فرد في المجتمع دوره التنموي والحضاري كما يدرك ايضاً أن علاقة الوعي الثقافي بالتنمية علاقة محورية فهي القوة الحقيقية الدافعة لعمليات التطور والرقي. وقد عرف (تايلر) عالم الإنثروبولوجيا البريطاني الثقافة بأنها ذلك المركب من المعلومات والمعتقدات والفنون والأخلاق والعادات والتقاليد التي يمارسها الشخص بصفته عضواً في المجتمع. لذلك فإن غرس الاتجاهات التي تنمي الوعي الثقافي والاقتصادي والصحي والديني وتعمق مفهوم الارتباط بالجذور والتراث ونشر المعرفة والمساهمة في التربية الوطنية للنشء والارتقاء بالذوق الفني والإحساس بالجمال تتطلب جهوداً مضنية من النخب الثقافية والتربوية باعتبارهم من يحملون على كواهلهم مهمة تثقيف المجتمع والاتجاه به الوجهة الصحيحة. سيما وأن بلادنا ولله الحمد تحمل كل المقومات التي جعلتها تخطو خطوات كبيرة في بناء الأطر الثقافية مما أسهم في إيجاد استراتيجية ثقافية تجلت فيها لغة الحوار وتنوعت فيها مناهل المعرفة وتجددت فيها وسائل وأساليب التثقيف وبرز خطابنا الثقافي كخطاب مؤصل ورزين تتجلى في طياته سلامة الفكر وعمق الرؤية ورقي المبادئ. [email protected]