الأمانة ، مأخوذة من الأمن والأمان والاطمئنان ، ومنها قوله تعالى : ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) الآية ، والأمانة تبرأت منها السموات والأرض والجبال ، وحملها الإنسان ، لقوله تعالى : ( إنَّا عرضنا الأمانةَ على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً " (الأحزاب 72 ). ومما سبق يتضح لنا بجلاء عِظم أمر الأمانة وأهميتها في ديننا الحنيف ، ومن يتصفون بالأمانة ، هم في مكانٍ رفيع ومنزلةٍ عالية ، بل جاء في الحديث أنه ( إذا ضيعت الأمانة ، فانتظروا الساعة ! قيل : وكيف تكون إضاعتها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( إذا أُوسد الأمرُ إلى غير أهله ) أو كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والأحاديث الدالة على ذلك في هذا الباب كثيرة ولا مجال لحصرها ، ولكن حسبُنا من القِلادة ما أحاط بالعنق . وفي هذا المقال وددت مناقشة قضية الأمانة من زاويةٍ أُخرى ، لأن الزاوية الأولى ، وهي عِظم أمر الأمانة ومنزلتها عند الله تعالى يوم القيامة ، ومنزلة صاحبها في الدنيا فهذا معلومٌ لدى كثيرٌ من الناس ، ولا أقول كلهم ! بيد أني وددت مناقشة موضوع الأمانة من جهة ، ومبررات تبرئة الذمة من جهةٍ أخرى ، ذلك لأن بعض الناس ممن هم يتقلدون مسئوليةٍ ما ، كرئيس عمل أو مدير إدارة أياً كانت تلك الإدارة حكومية أو خاصة يُبالغون كثيراً في فِهم الأمانة ، ويصل الأمرُ إلى التضييق على مرؤوسيهم ومن يعملون تحت أيديهم بحجة تأدية الأمانة ، وهم لا يفقهون معنى الأمانة الحق ، بل هم يتلذذون إن جاز التعبير في التمسك ببنود بعض الأنظمة وتطبيقها بحذافيرها . بينما تلك البنود أو التعاميم ، هي تطبق بحرفة ومرونة إدارية ، ولأن النظام بحد ذاته مطلوبٌ تطبيقه ولا يمكن أن نقول بغير ذلك أبداً ، ولكن في أحايين كثيرة يجب على المسئول الإداري ( مُدير ، رئيس أياً كانت مسئوليته ) أن يفهم شيئاً اسمه روح النظام ، ذلك أن روح النظام في جوهره أن تعرف كيف تدير من هم تحت إداراتك ومسئوليتك بِحرفة وفن؟ وذلك لا يعني الإخلال بالنظام بأي حالٍ من الأحوال ، ولكن كما أسلفت فهم روح النظام ، بحيث يطبق النظام دون التضييق على المرؤوسين ويتم التمسك بنصوص النظام ولا يمكن أن يحيد عنها قيد أنملة ، وبالمثال يتضح المقال أعرف أشخاصاً من المديرين والرؤساء ، يتمسكون بنصوص وأوامر يعتقدون أنها من النظام وهي ليست منه في شيء ! ومن ذلك أن الموظف ليس له حق الاستئذان سوى ثلاث مرات فقط ! ما يعني أنه مهما واجه من ظروف أو أشياء طارئة عليه ، فإنه بناءً على رؤية ذلك المُدير القاصرة ليس له الحق في الاستئذان البتة !! إضافةً إلى أن بعضهم يُلغي الثقة بينه وبين مرؤوسيه ( وإذا انعدمت الثقة المتبادلة ، فقل على تلك المُنشأة السلام ! ) وذلك بناءً على تصور منه فقط ، ليس إلا ، ولو فتشت في هكذا عقلية لوجدت غالباً أن شخصية ذلك الرئيس أو المدير وهذه نماذج كثيرة في مجتمعنا كانت غير منضبطة ، أو بمعنى أدق هو كان من الخاملين ، وبين عَشيةٍ وضحاها أصبح مسئولاً عن عددٍ من الموظفين ، فأصبح ينظر للمرؤوسين وللموظفين بمنظاره هو حينما كان خاملاً وغير منضبط ، وبالتالي تتكون لديه هذه الصورة وعلى ضوئها يتعامل مع مرؤوسيه على ذلك النحو من الشدةِ والصرامة ، تلك نوعية . ونوعيةٌ أخرى ، هي منضبطة وعمليه من الأساس ، ولكن لديها شيئاً من الخوف والوجل في التعامل بروح النظام ، أي لا يكون لديها مرونة في النظام بحيث لا يمكن أن يحيدوا عنه ، ولو فتشت ونقبت عنهم جيداً ، لأيقنت أنهم يتشددون في تطبيق نصوص النظام بحذافيرها من أجل شيء واحد غالباً وهو المحافظة على الكرسي ، لا غير ! ذلك الكرسي وبريقه ، والذي تنشأ منه ومن أجله العداوات والمؤامرات والاعتراضات ، والشلليات ( مأخوذة من الشللية ) من أجل البقاء أكثر وقتٍ ممكن ، ولا يعلم ذلك المسكين أنه لو بقيت لغيره أي الإدارة لما وصلت إليه أبداً ، ولكنه الجهل ولا غيره ، ( فكيف يَصِحُ أن يُدير الجاهل ؟! ) . ولذلك لا تعجب حينما ترى مُديراً أو رئيساً مكث عدداً من السنوات في إدارةٍ ما ، حينما يتم نقله كمدير إلى جهةٍ أخرى هي من صميم عمله الأول نجده يتذمر ويتسخط ، ويقول بأنه عمل كذا وكذا ، وهو بدأ في هذه المنشأة من الصفر .. إلخ ، وهو ومن على شاكلته يُحاربون شيئاً اسمه التدوير ، والتدوير هو من صميم أُسس الإدارات الناجحة ، ذلك لأن التدوير سُنةٌ كونية ، فَلِمَ الضجر ؟! بدلاً من بقاء شخصٍ في إدارةٍ ما ، حتى تقاعده أو موته ، فهذا تعطيلٌ وحِرمانٌ للكفاءات من أخذ حقها ، ومن ايجابيات التدوير ، أن يضع كلاً منهم بصمته في الإدارة الجديدة ، فأنت عملت كذا وغيرك صنع كذا ، وهذا ما نُريده ، ولا يريده محبو الكراسي !