ظل الاعتقاد زمنا طويلا بأن الشاعرية والخيال حكرا على الأدب والفنون بشكل عام، وأن ليس للاقتصاد شيء منها، بل ساد في الناس ردحا من الزمن، أن الاقتصاد صحراء من أرقام وكثبان مالية وجداول وساحات للعملات والمضاربات في الأسهم والسلع وجفاف مدقع من أية محسنات أو جماليات، وتلك لعمري رؤية جافاها الصواب، فالاقتصاد هو الذي يصنع الجمال و البيئة الجميلة، وبالاقتصاد تقام المدن الجميلة النظيفة التي لا تكتسحها الفيضانات أو تغرقها السيول، وبه تقوم الحدائق وتصفف الأشجار وتأخذ الساحات حظها الوفير من الخضرة والمقاعد الوثيرة والطرق السهلة ووسائل المواصلات والاتصالات وبالاقتصاد يتم القضاء على الفقر والجهل والمرض و.. و.. الخ، فكل تلك الجماليات يصنعها الاقتصاد القوي، وهي طموحات الناس وغاياتهم ومعترك التنافس بين الحكومات والدول في عصرنا هذا، فالتخطيط لبناء المدن وإرساء المشروعات المختلفة في جميع المجالات ينبغي أن تسبقه الشاعرية والخيال، خيال فيه من الخصوبة ما يكفي ويمكننا من رؤية الناس وهم يتحركون في المدينة التي نود بناءها، يخرجون من بيوتهم في كل اتجاه لقضاء حاجاتهم بيسر وطمأنينة، نتصوّرهم وهم يمشون في طرق واسعة ممهدة ونظيفة، نتخيّل طرقا وبيوتا لا تطفح فيها المجاري، وأن للأودية مساراتها الآمنة حتى وإن صامت عن الجريان سنوات عديدة، نحلم بمواصلات سريعة وجسور معلقة ومطارات ومترو، وبيئة خالية من الملوثات برا وبحرا وجوا، وأن لكل فرد منا دواء وخبزا وكساء ومأوى ومقعدا ليتعلم، كل ذلك ينبغي أن يكون حلما وخيالا حافلا بالشاعرية، حلما نتخيّله و نعيشه قبل إنزاله على الورق والمجسمات وقبل أن يكون واقعا على الأرض، أترى هل غابت الشاعرية والخيال عن المسؤولين يوم أن رسموا لجدة صورتها وفصّلوا للعروس رداءها؟ أم ان الخيال كان مريضا والحلم كابوسا؟ أكاد أجزم لو أن حلم المسؤولين عن جدة يومها كان كابوسا، لنهضوا فزعين من سباتهم ولاحترسوا لما آلت إليه العروس، صحيح إنه ليس بالخيال والشاعرية وحدها تبنى المدن، وتؤسس المشروعات وإنما لابد من أن تمر هذه الصور الشعرية والرؤى التخطيطية للتنمية والبناء، عبر شبكة الأخلاق، الإحساس بالمسؤولية والزهد في الأنا لصالح الجماعة، وربما كان ذلك بيت القصيد ومكمن العلة في الإخفاقات التي منيت بها بعض مشاريعنا وربما أن هذا الجانب في أدبياتنا الاجتماعية وفي تفكيرنا الجماعي، لا يزال ضعيفا وبحاجة إلى إعادة بناء وضخ المزيد من جرعات المسؤولية الاجتماعية والإحساس بالمواطنة في دمائنا. والآن، قد ترى عزيزي القارئ أننا ذهبنا بعيدا في تصوير الحالة وبالغنا في الأمر، ولكني أقول: إن لم نتحدث بعمق عن أنفسنا، ونقول الحق ولو علينا، فقد قلنا إذًا شططا، ولعمري وعمرك لا يكون الوطن في قلوبنا ومحط عنايتنا حتى ننظر لرصيف الشارع مثل نظرتنا لباحة منازلنا. ولا وربك لا تكون الأمانة والنزاهة قرينًا يساكننا وظلًا يتبعنا، حتى نحاسب أنفسنا قبل أن يتداعى الحاكم لمحاسبتنا، وحتى نرى حرمة المال العام علينا وأنه حرام علينا التلاعب به أو الاستثمار به لمصلحتنا الخاصة.