مع تنامي نشاط صالات ومزادات بيع القطع التراثية والأثرية بجدة وغيرها من المدن الأخرى، برزت العديد من المخاوف حول ضياع هذه القطع، وتسربها عبر السوق السوداء إلى خارج المملكة، مما حدا ببعض المهتمين بجانب التراث بمناشدة الهيئة العامة للسياحة واللآثار بالتدخل، وتطبيق لوائحها تنظيمًا لعمل المزدادات وتسجيل ما يتداولونه من قطع أثرية ومنقولات تراثية، مؤكدين في الوقت نفسه أن المزادات تعد وجهًا حضاريًّا يعرّف بما تمتلكه المملكة من كنوز أثرية متى ما كان ذلك التداول مرهونًا بمراقبة هيئة الآثار وتحت إشرافها.. الآراء على اختلافها طي هذا التحقيق حول المزادات وصالات بيع القطع الأثرية والتراثية.. استلهام النموذج الأوربي استهلالًا يرى الدكتور أحمد زيلعي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود في النموذج الأوروبي مثالاً يحتذي في هذا المجال يبرز في سياق قوله: علينا أن نحذو حذو التجارب الأوروبية فيما يتعلق بالمزادات؛ إذ إن التقليد العالمي للمزادات ينص على أن كل ما يعرض في المزاد يطبع في كتالوج وتوضع تحته أسعاره ويوزع بطريقة نظامية ومعلومة، فأنا أعرف مزادات عالمية معروفة كالمزادات التي في لندن وغيرها من الدول الأوروبية، هذه المزادات هي من الروافد التي تغذّي المتاحف والمجموعات الخاصة إذ تأتينا كتالوجاتها الخاصة مسجل فيها كل قطعة وعليها سعرها.. ويضيف زيعلي: أما من حيث المبدأ أرى أن مثل هذه المزادات تحمل حراكًا حضاريًّا؛ وهذا تقليد عالمي وموجود؛ ولكن له ضوابط يجب أن تراعى رغم أنني لست قريبًا منها، فأرجو أن تكون المزادات التي لدينا من هذا النوع الذي له ضوابط وقوانين تحكمه؛ وألا يكون فوضى وعرضة لأن يدخل في المزاد المشروع وغير المشروع، وأرى أن الهيئة هي الجهة المخولة في تنظيم المزاد دون غيرها كونها جهة حكومية رسمية، فأي شيء من هذه المواد التي تباع ينبغي أن تعرف عنه الهيئة ومسجلاً لديها، لأن مثل هذا التسجيل يعد ضمانًا وله مشروعية، لأن متداولي مثل هذه المجموعات لا يعملون في الظلام أو من وراء علم الهيئة؛ لكن قد يكون هناك ضير على الناس عندما نجمعهم في مكان واحد ونضعهم في صالة واحدة بحكم بعد المسافات ولأصحاب المزادات أن يذهبوا إلى الهيئة ويطالبوا بما يريدون؛ إلا أنني أرى أن تكتفي كل منطقة من المناطق الكبرى بصالة واحدة تشرف عليها الهيئة رقابيًّا وتنظيميًّا. محاربة السوق السوداء وتتطابق رؤية الدكتور عدنان الحارثي الأستاذ المشارك بقسم التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى مع رؤية الدكتور زيلعي فيما يخص استلهام النماذج الأوروبية، حيث يقول : أرى أن وجود الصالات والمزادات مهم جدًّا وينبغي أن يدعم؛ ولكن يوضع له اشتراطات ومعايير عالمية وأتمنى أن تحذو مثل هذه الصالات حذو الصالات المتواجدة في العواصم العالمية ذات الخبرة العريقة في مجال تنظيم المجموعات التراثية والأثرية؛ لأن مثل هذا التنظيم سيقضي على ما يسمى بالسوق السوداء غير منظمة، التي غالبًا ما تعرض قطعًا مغشوشة ومزورة ومقلدة. فوجود صالات ذات تنظيمات ومعايير معينة يحمي أولاً أصحاب هذه المزادات من التزوير، ويقضي على السوق السوداء والراغبين في اقتناء المقتنيات هذه؛ خاصة ممن لا يملكون الخبرة في تحديد القيمة الحقيقة لهذه القطع، وأرى أن يرتبط تنظيم مثل هذه الصالات بتنظيم المؤسسات العالمية العريقة في هذا المجال لأن ذلك سينقل لنا خبرات تلك المؤسسات أو نسمح لبعض المؤسسات الدولية التي لها باع طويل في هذا الجانب أن تمارس مثل هذا النشاط وتنشئ الصالات بمعاييرها العالمية المنظمة، فالهيئة إمكانياتها محدودة جدًا، وينبغي أن تدعم من ناحية عدد الموظفين واستقطاب الكادر الكفء والعمل على تطويره، إذ أن الدور الرقابي على مثل هذه المزادات ضعيف جدًّا بمقارنة عدد موظفي الهيئة إلى عدد الصالات في بعض مناطق المملكة، كما أتطلع إلى طباعة كتالوج وطني لكل القطع والمقتنيات الأثرية لدينا ويختم الحارثي قائلاً: لنكن صريحين فنحن تأخرنا في اهتمامنا بهذا الرافد الحضاري الكبير. الالتزام بلوائح الهيئة ويصف الدكتور هاني مهنا الأستاذ المشارك بقسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبدالعزيز مزادات صالات بيع التحف الأثرية الوجه الحضاري الذي يعكس عمق حضارة المجتمع وأصالته، وأنها محل التقاء النخب المثقفة والمتخصصة في المجتمع.. ماضيًا إلى القول: لا شك أن الالتزام بما جاء في لوائح الهيئة العامة للسياحة فيه حماية من شبهة الخداع والغش، ومن المسلّم به أنه كلما كانت صالات المزاد خاضعة للوائح وقوانين تسيرها، كلما كانت هذه الصالات محل ثقة مرتاديها، ولعل في وضوح لوائحها وتنظيمها الدقيق يغري أصحاب القطع الأثرية النادرة والمخطوطات لعرضها في هذه المزدات مقتنياتهم. إشراف قصير رؤية الهيئة العامة للسياحة والآثار بمنطقة مكةالمكرمة يحملها مديرها التنفيذي محمد العمري بقوله: الكل يعلم أن مدة إشراف الهيئة العامة للسياحة والآثار على هذا القطاع قصيرة جدًّا، وهناك توجه قادم بإذن الله للرقي بهذا القطاع الهام، وكما أن سمو الأمير سلطان بن سلمان أحد المهتمين بالآثار والتراث بالمملكة منذ عشرات السنين فأنا على ثقة بأن النهوض بهذا القطاع خاصة سيكون حليفًا له، فهناك كفاءات متخصصة لدى الهيئة وخبرات متميزة في مجال الآثار والمتاحف. ويضيف العمري: أما ما طرح بخصوص صالات المزادات فالكل يعلم أن هناك فرقًا بين القطع التراثية والقطع الأثرية؛ فالقطع التي يكون عمرها أكثر من 200 سنه تعتبر في الغالب من الآثار، وهذه لها أنظمة وإجراءات عند البيع تصب في صالح المتحف التابع له أو مقتني هذه القطع بحيث يتم توثيق وتسجيل هذه القطع، أما القطع الخاصة بالتراث فهذه لها إجراءات أخرى. وشخصيًّا فإنني أرى إن وجود صالة واحدة رئيسية للمزادات في جدة مهمة للغاية بحيث تتكاتف جهود القائمين ومحبي التراث في مكان واحد وكذلك تتزايد الحركة والتوجه لصالة متكاملة منظمة، وفي نفس الوقت تأخذ الصالة هذه قوة تسويقية في جدة وتصبح مكانًا يتوجه له المهتمين من المملكة. وبلا شك أن صالات المزادات تساعد في زيادة الحركة الخاصة بالمهتمين بهذا النوع من النشاطات.. ويتابع العمري حديثه قائلاً: أما بخصوص عدم إتباع من يقوم على هذه المزادات وعدم تسجيلها في سجلات الهيئة فهذه مخالفة صريحة للنظام ولا نقرها؛ بل نؤكد إنه من الواجب أن يكون هناك حرص من المهتمين بالتراث لتسجيل ذلك مما سيجعل هناك مصداقية في هذا الجانب ويعطي قيمة معنوية أكبر لكل قطعه مسجله وكذلك تحمي هذه القطع من السرقات ويسهل على الأجهزة المعنية العثور عليها كون هناك سجل لكل قطعة. وأرى أن الخطوة الأساسية تبدأ من المهتمين بالتراث والآثار من القطاع الخاص فهيئة السياحة مستعدة للتعاون معهم والعمل على الارتقاء بهذا القطاع. طريقة عشوائية مدير مكتب الآثار بجدة محمد السبيعي أبدى رأيًا سالبًا حول هذه المزادات الحالية بقوله: هذه المزادات طريقة عشوائية وتنظيم خاطئ جدًّا، والمفترض عدم قيام مزاد إلا بتصريح من مكتب الآثار بجدة يتم من خلاله الرفع إلى جهات عليا في الهيئة العامة وبعد الاطلاع والمداولة حول ما سيتم تداوله داخل المزاد تتم الموافقة من عدمها إذ يقام في مدينة جدة ما يقارب الستة مزادات إذ تقع أحيانا الهيئة في إشكاليات مع بعض من يبيع القطع الأثرية والتراثية وقد اقترحت على الدكتور علي الغبان بأن توضع صالة واحدة تكون ضمن موقع قصر خزام تضم جميع المزادات تحتها حيث يسهل التحكم في ما يباع فيها وتقع تحت نظر الهيئة الدائم. تضافر الجهود وخلافًا للرؤية السالبة التي أبداها السبيعي يرى فهد العيسى المستشار الثقافي لمدينة الطيبات العالمية للعلوم والمعرفة ومتاحف عبدالرؤوف حسن خليل أن الظاهرة جيدة وتعطي الروح والحياة للحراك الثقافي، مضيفًا بقوله: هناك من ينادي بأن تتولى الهيئة العامة للسياحة والآثار تنظيم مثل هذه المزادات، لكن يبدو لي أن التعامل إلى الآن مع القطع الأثرية مازال محدودًا، وفي اعتقادي أن القطع الأثرية تنطوي على أثر ثقافي وتاريخي معينين ولابد أن يكون تنظيم مثل هذه القطع بطريقة مهنية حيث أن الجهود لا تزال في بداياتها ولا توجد إلى الآن مؤسسات رسمية تمارس مثل هذا العمل بحيث تؤرخ وتحلل، ويتصدر هذا العمل الجامعات؛ بحيث تتضافر جهود المؤسسات الأكاديمية مع الهيئة العامة للسياحة والآثار، إذ إن ما يرتجل من بيع وشراء داخل المزادات خارج عن المرجعية إلى حد كبير وهو بطبيعة الحال سيسبب فوضى، وأنا هنا أنادي بوجود المرجعية أو المظلة التي تنظم عملية البيع والشراء وأرى الفوضى معقولة حاليًا. تثقيف الشباب وتختلف رؤية عبداللطيف حبحب وهو أحد مرتادي المزادات وصاحب أحد المتاحف التراثية الخاصة مع ما ذهب إليه العيسى قائلاً: أهمية المزاد تعتمد على محتوى ما يباع فيه أو يشترى منه، وكل ذلك ليس إلا انعكاسا لحضارة البلد وثقافته ويفترض أن تتوارثها الأجيال فهي امتداد حضاري بطبيعة الحال، فأغلب شبابنا الآن لا يعلم كثيرًا عن ما كان عليه آباءنا وأجدادنا وهذه إشكالية كبرى يلامسها الجميع حيث انصهروا وراء الحضارة وبدأت المدنية تخفي معالم ذلك الامتداد التاريخي والحضاري ومثل هذه المزادات لها دور كبير في تثقيف الشباب. أما عن آلية تنظيم ما يباع داخل المزادات فقد اشتركت الجهود متضافرة بين مكتب الهيئة العامة للسياحة والآثار بجدة وأصحاب المزادات حيث اقترحوا علينا تسجيل كل قطعة تتداول داخل المزاد لدى مكتب الهيئة العامة للسياحة والآثار حيث ترسل قائمة لمكتب هيئة السياحة وتؤخذ موافقتهم عليها ونقوم بعدها بتداول المزاد. أما عن كثرة المزادات فأراها ظاهرة جيدة وأنا ضد من ينادي بجعلها مزادا واحدا لسبب واحد وهو أن تعدد مثل هذه المزادات سيخلق جوا من المنافسة والبقاء للأفضل بطبيعة الحال. فوضى المزادات ويشاركأحد المهتمين بجمع المخطوطات والوثائق والكتب جابر الغامدي بقوله: ما يحدث الآن داخل المزادات ما هو إلا فوضى حيث أنها لا توجد آلية تتماشى عليها وتسير بموجبها المزادات، إذ أن ما أقر من تسجيل القطع لدى مكتب الهيئة العامة للسياحة والآثار بجدة لم يفعّل بالشكل المطلوب حتى وإن فعّل الآن فهو لم يطبق بشكل جيد حيث أنه يوجد بجدة ما يقارب الستة مزادات لم يلتزم بتسجيل القطع لدى المكتب سوى مزادين فقط، مما يستدعي الآخرين بأن يحتجوا على ذلك لأنه يطبق على شخص وشخص، وأنا لا أدعو إلى وضع العقوبات في حالة تجاوز صاحب المزاد إذ أن ما يحدث أحيانا في بعض المزادات من عرض بعض الوثائق الرسمية غير المسموح بتداولها بحد ذاته يعد قمة في الفوضى؛ لذا فنحن نطالب بأن يتحمل كل مزاد تبعات ما يباع لديه من قطع تراثية وأثرية ووثائق وغيرها، وينبغي هنا أن أشير إلى مراقبة مكتب الهيئة العامة لما يباع داخل المزادات وأرى أنه يفتقد إلى العدد الكافي لمراقبة المزادات مقارنة بعدد المزادات ومرتاديها. توعية المجتمع وكسابقيه يرى فهد الغامدي المسوؤل عن موقع إجازتي للسياحة الإلكترونية أن صالات العرض والمزادات المرافقة لها تبرز الوجه الحضاري للمملكة من خلال مقتنياتها المعروضة، غير أنه يستدرك بقوله: لابد أن يواكب هذا الكم الكبير من الإرث التراثي توعية المجتمع بقيمة تراث البلاد وأهميته من خلال إصدار تنظيمات تضبط تفاعل المواطنين والمقيمين والراغبين في الاتجار فيه من خلال تبادل القطع الأثرية عن طريق صالات العرض وفق نظام يحفظ حقوق الملكية الفردية لمتداولي هذه الآثار وفي الوقت نفسه تحفظ إرث هذا البلد من خروج الآثار الحقيقية والنادرة من أرض الوطن، ونحن نتفق على مبدأ رفض الاتجار غير المشروع بالآثار والتي تتم من خلال المزادات العلنية أو السوق السوداء التي تساهم في فقد المقتنيات والآثار النادرة لأنها تعتبر جزء من تاريخ هذه المنطقة سواء قطعا أثرية أو وثائق ومحفوظات ذلك لأنها تعتبر مفتاح الماضي وأن حفظ مثل هذه الوثائق يعد موروثا حضاريًّا للأجيال القادمة وهو أحد المظاهر الهامة لنهضة وتطور الشعوب، والأمة الواعية هي التي تهتم بتاريخها وتصونه ولكن ذلك لا يمنع من وجود آلية واضحة يتحقق من خلالها الإسهام في إثراء فكر المجتمع ومحترفي وهواة اقتناء الآثار في مزاولة عملهم ولكن ضمن شروط تتعاون الهيئة العامة للسياحة والآثار من خلالها لإنجاح هذه المزادات وتبني ثقافة إقامتها وتشجيع القائمين عليها.