يعد الكاتب والباحث التونسي محمد المي أحد الأكاديميين التونسيين الذين أثروا المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات ذات الصلة بالشأن الثقافي الراهن، مساهمًا في إثراء الذاكرة الأدبية التونسية وتراثها الإبداعي وبفكرها الإصلاحي بأسرارها وتفاصيلها بحماس وبجرأة كبيريين، وكان آخرها مؤلفاته كتابه الجديد “منطلقات التنوير في الثقافة التونسية”، الذي يكشف عن فحواه بقوله: هذا الكتاب ترجمت فيه لعدد من أعلام ثقافتنا التونسية الذين عاشوا أساسًا في الثلث الأول من القرن العشرين، ووجدت أن الجيل الحالي لا يعرف عن أعلامه القليل قبل الكثير، فهناك اليوم أسماء مجهولة أصبحت، أسماء نكرة. ومعلوم أن الثقافة لا يمكن أن تنشأ إلا بأعلامها وبمعالمها، وبالتراكم، وإذا كنت لا تعرف من هو الشابي ومن هو محمد الحليوي ومن هو الطاهر الحداد، ومن هو محمد البشروش، ومن هو الحبيب جاء وحد ، فماذا تعرف ومن أي شيء ستنطلق ومن أي ذاكرة. لابد من ذاكرة.. لابد من أن تكون لك جذور.. بقد أردت بهذا الكتاب أن أعرف الأجيال الحاضرة فضلاً عن الأجيال القادمة أن الثقافة التي نعيش ليست إلا نتاج تراكم، وأن هناك من سبقنا من رجالات ومثقفين وكتاب ضحوا بالغالي والنفيس لأجل أن تكون لنا ثقافة نتمتع بها اليوم، فما نحن فيه هو نتيجة إرث حضاري صنعه بناة النهضة والثقافة التونسية من الأسماء التي ذكرتها. ويمضي المي في حديثه عن كتابه مضيفًا بقوله: هذا البحث في أساسه عن الطاهر الحداد الذي اعتبره بمثابة القطب الذي تدور حوله الرحى، فالطاهر الحداد هو المنطلق وهو المرجع في نهاية الأمر، وأنا أسعى إلى أن أدرس هذا المصلح ومسيرته الفكرية والأدبية والتعريف بمنجزه الإبداعي وجمع مقالاته وجمع كتبه، وقمت بتأسيس مكتبة سنة 1999 تحوي كل ما كتبه، كما أسعى إلى تأليف كتاب حول رواد تحرير المرأة في الوطن العربي لا أكتفي فيه بتونس والمغرب العربي؛ بل سأحاول أن أطل على كافة ربوع الوطن العربي من خلال روّاد تحرير المرأة. فضح الرداءة ويكشف المي عن نهجه في اختيار الكتب التي يتناولها بالنقد قائلاً: الكتب تفد عليَّ دون أن تختار، ففي الساحة الثقافية لي العديد من العلاقات مع العديد من المثقفين، وبحكم أنني أكتب بصفة يومية فهناك العديد من الكتاب يتصلون بي قصد مدي بإبداعاتهم وإصدارتهم، وأنت تجد نفسك مطالبا على سبيل الكتابة اليومية أن تكتب عن أي شيء نتيجة أن الكتابة اليومية تتطلب جهدًا يوميًّا وعدم توقف، وأحيانا تصطدم بأزمة مواضيع، لا تجد المواضيع التي تكتب فيها والتي إن أردت أن تعالجها تكون مواضيع الساعة، فعندما يبرز كتاب جديد يستحق التعريف به فهناك حدود دنيا لا بد أن يتوقف عندها الناقد، لكن بالنسبة للممارسة النقدية وعندما أتناول كتاب لأدرسه دراسة معمقة وأحاضر حوله طبعًا هنا يفرض الكتاب الجديد نفسه لا يمكن أن تتناول كتاب رديئا لا يستحق التقديم ولا يستحق أن تبذل جهدًا كبيرًا للتعريف به من جهة، من جهة ثانية قد يسعفك الكتاب الردئ أحيانًا لضرورة التوقف عنده قصد فضح الرداءة على مستوى الكتابة. بين الباحث والموثق وحول الاختلاف بين الباحث والموثق وأين يضع نفسه في هذه المعادلة يقول المي: لا يختلف الباحث عن الكاتب ولا يختلف الباحث عن الموثق ذلك أن الباحث بالضرورة يلتجأ إلى التوثيق، لأن التوثيق عملية أساسية لينطلق في المعرفة، وينطلق في التعرف إلى ما يجب أن يتعرف عليه ليكون له ذلك منطلق للبناء وللكتابة، وبالتالي التوثيق هو مهمة ضرورية وأساسية ينطلق منها الباحث للقيام بعمله، أجد نفسي بين كل هذه الصفات واجدها تحقق بالنسبة لي العديد من الهواجس وتسد ثغرات في ثقافتي وتكويني لأنني أنطلق بحثا عن معلومة تقودني إلى معلومة أخرى وهكذا دواليك وتلك هي ربما متعة البحث وذلك ما يعلمك إياه درس التوثيق ، فنحن في حاجة إلى أن نوثق وأن نعرف مخزوننا الحضاري ومخزوننا الفكري ومخزوننا العلمي والعودة إلى بطون المجلات والجرائد والمضامين بصفة عامة يجعلك كما قال حسني عبدالوهاب (لا تعيش عصرك فقط بل تعيش عصور سابقة ولا تعيش أعمارًا أخرى إذ من تعلم التاريخ ضم إلى عمره أعمارًا وإلى تجاربه تجارب). دخول من نافذة الحداد ويعود المي إلى بداية مسيرته مع عالم الكتابة والبحث والتوثيق حيث يقول: كان لاكتشافي لمخطوطات المصطلح الاجتماعي التونسي الطاهر حداد 1899 1935 ، هو الذي دفع بي إلى عالم البحث، إذ عثرت على هذه المخطوطات، فعزمت على التعريف بمحتواها وتقديمها للقراء على اعتبار أنها وثائق مجهولة تروي مسيرة علم من كبار الأعلام التونسيين إذ كما هو معلوم فالطاهر الحداد هو داعية تونسي لتحرير المرأة وقامت ضده في الثلث الأول من القرن العشرين العديد من الكتابات التي لا تؤيده مثل ما قامت الكتابات ضد قاسم أمين، فالطاهر الحداد واجه بعديد الكتابات من أبرزها ما كتبه الشيخ محمد صالح بن مراد “الحداد على امرأة الحداد” أو رد الخطأ والكفر والبدع التي حولها كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع، وهناك كتاب كتبه سعودي كان يدرس في تونس اسمه عمر بن إبراهيم المدني البري، وعنوان هذا الكتاب (سيف الحق على من لا يرى الحق) وبين قوسين أطلعت أخيرًا في معجم البابطين معجم القرنين التاسع عشر والعشرين فاطلعت على ترجمة لهذا الشاعر السعودي من المدينةالمنورة ووجدت أن هذا الكتاب غير معروف في السعودية، وهنا أتوجه إلى الإخوة السعوديين راجيًا التعريف بهذا الكاتب وضرورة التعريف بكتابه، فكتابه (سيف الحق على من لا يرى الحق) يستحق أن يعاد طبعه لأنه يعكس نظرة أحد أبناء المدينةالمنورة لحدث ثقافي تونسي حدث، إذا الطاهر الحداد عندما ألف كتاب (امرأتنا في الشريعة والمجتمع) سنة 1930 أحدثت رجة ثقافية في الأوساط التونسية والمغاربية وحتى العربية، فدفعت بحكم اهتمامي بالطاهر الحداد إلى البحث، وكان كتاب يقودني إلى كتاب والمرجع يقودني إلى مرجع وهكذا وجدتني أطلع على العديد من الكتب وأفهم أن المسألة ليست مسألة تأليف كتاب للتعريف بمخطوطات عثرت عليها صدفة وإنما سكنت بحب البحث وهكذا وجدتني لا أريد التعريف بالطاهر الحداد، فقط بل أريد التعريف برموز عصر الطاهر الحداد، فألفت كتاب عن الأستاذ العميد الطيب الميلادي وهو أحد معاصري الحداد، وألفت كتابًا عن محمد صالح المهدي، وكتابًا به مقارنة ودراسة بين قاسم أمين والطاهر الحداد، قارنت بين رائدين من رواد تحرير المرأة في الوطن العربي، في ما بعد بما إنني شغلت بمسألة المرأة ألفت كتابًا بحثت فيه عن صورة المرأة في الأمثال العامية التونسية، وآخر كتاب لي هو (منطلقات التنوير في الثقافة التونسية) الذي يحوي العديد من التراجم للعديد من الإعلام التنويريين التونسيين الذي تميزوا بجرأة وحدة التفكير والرغبة في تجاوز الموجود في تحقيق المنشود في تلك الفترة. ضد انتقاء التراث وحول بحثه في التراث وما يشتمله من غث وثمين والكيفية التي يمكن للباحث التراثي من خلالها الكشف عن ما هو مهم ومفيد يضيف المي بقوله: يقول المرحوم سعد غراب وتسألني وماذا نحن فاعلون بالتراث ؟ أقول لك أن كل تراثنا جدير بالاهتمام إذا نجد ما يهمنا في ما لا يهمنا، بمعنى أثناء عملية البحث قد تجد وأنت تبحث عن شيء مهم جدًّا ويعترض سبيلك كتاب ما أو وثيقة أو جريدة أو شيء قديم ما لا تتوقف عنده ولا ترى أن له أهمية بالغة ولكن قد تجد فيه ما لا تنتظر، فأنا لست من أنصار النظرة التي تقول يجب أن نقطع صلة مع التراث، ولست من أنصار النظرة التي تقول يجب أن ننتقي من التراث ما يكون لصالحنا ونوظفه، أنا مع النظرة أننا يجب أن نتعامل مع التراث ككل بصفته جدير بالاهتمام والانتباه وعلينا أن نعمل أدواتنا النقدية والبحثية لتثبيت الجيد وإبرازه ولتثبيت الردئ وعدم إبرازه أو إبرازه لنقول هذا التراث فاسد وغير صالح ولكن يدل علينا ويدل على حضارتنا وعلى فكرنا ويدل على أننا في وقت من الأوقات هكذا كنا نعيش وهكذا كنا نتصرف، يعني هو في النهاية الأمر يدل على ذاكرتنا المنسية. ويتابع المي حديثه مضيفًا: فكتب التراث هامة في المكتبة العربية، ولا يمكن أن تلغيها منها، بل إذا كانت لا تتوفر على كتب تهتم بالتراث هي مكتبة لا ذاكرة لها، وهي مكتبة ذات نجاعة وفائدة كبرى، فمن لا ماضي له لا حاضر له ومن لا ماضي له لا مستقبل له، وبالتالي فإن كل الكتب التي تعنى بهذا المجال يجب أن نشجعها، وأعتقد أن على غزارة الكتب التي تعنى بالتراث مازلنا نفتقد إلى كتب أكثر من الكتب الموجودة. تنقية الأمثال وأشير هنا إلى أن تنقية هذا الموروث مما علق به من شوائب بحيث نعيد كتابته بشكل أفضل واقرب إلى الصحة هي وظيفة الناقد الجيد والذكي ووظيفة الباحث الحصيف، تلك هي وظيفة الباحث الذي يستطيع أن يدرك مشاكل الراهن وله تطلعات استشرافية وبالتالي عليه أن يستفيد أولا من التراث وأن يفهمه، ويغربله، فأنا عندما كتبت كتابي (صورة المرأة في الأمثال العامية التونسية) وجدت كل الأمثال التراثية تصور المرأة بصورة سلبية، وبصورة منحطة، وبصورة مهزومة وفاسدة، فأثبت تلك الأمثال، وقمت بدارسة انتقدت فيها الأمثال وانتقدت العقلية والذهنية السائدة وقلت إن هذه الأمثال لا تقدم صورة مشجعة عن المرأة ونحن يجب أن نكشف عنها لنؤكد أنها تنتمي إلى تراث فاسد ونحذر منها ومن تفشيها ومن ضرورة أن لا نجعل ألسنتنا تلوكها نظرًا إلى إننا إذا انخرطنا في هذا فإنما نحن لم نتجاوز ماضينا، مازلنا عالقين بالماضي ومازال هو الذي يسيرنا ويحكم فينا، بل علينا تجاوزه ونعيش اللحظة ونفكر في المستقبل. تواصل معدوم ويبرر المي اعتكافه على البحث في التراث والأدب التونسي وعدم الاهتمام بنظيره في كافة الأقطار العربية بقوله: مشكلتي الشخصية مع التراث العربي أن الكتب والإصدارات العربية لا تصلنا، نحن في تونس نكاد نكون في جزيرة معزولة، كتبنا لا تسافر، لا تحلق، لا تخرج، وكتب الغير لا تأتينا، ربما هذا دور الجامعة العربية، ودور المنظمة العربية للثقافة والعلوم في ضرورة تقريب الكتب والدراسات العربية، نحن نعثر على بعض الكتب أو ما نحتاجه عن طريق معارض الكتب الدولية، ننتظر سنة كاملة لنختار ما يمكن أن نستفيد منه خلال عشرة أيام التي تبقى غير كافية، فيجب أن تفكر الدول العربية في إحداث سوق عربية حقيقية يستفيد منها المثقف العربي، الكتب الخليجية مثلاً لا تصل إلى تونس باستثناء ما تصدره الكويت المتمثل في سلسلة عالم المعرفة، تعربيها لمسرحيات، مثلا الكتب السعودية، والبحرينية، والإماراتية، فمعظم دول الخليج كتبها لا تصل، بل إن الكتب التي تصدر في الجزائر الجارة لا تصل إلى تونس، هل أنت تعرف بأن هناك كتب جزائرية في تونس ؟ هل تعرف كتب ليبية في تونس ؟. هذه المشكلة.. فأنا تمكنت من السفر إلى العديد من البلدان العربية ولا أجد كتابًا تونسيًّا.. هذه مشكلة حقيقية. ندم على جميلة الماجري وينتقل المي بالحديث إلى كيف حال اتحاد الكتاب التونسيين بعد انتخاب الشاعرة جميلة الماجري على رأسه منذ شهور حيث يبدى أسفه على ما آل إليه الاتحاد في سياق قوله: شخصيًّا ندمت لأنني كنت من ضمن الذين صوتوا لفائدة الشاعرة جميلة الماجري لأنها امرأة عاجزة عن تسيير جمعية أو منظمة، هي شاعرة تكتب شعرًا جيدًا وبكفاءة، لكن لا علاقة لها بالتسيير في مجال اتحاد الكتاب التونسيين، فهي كشفت عن وجه تسلطي لم تقدم إلى الكتاب أي شيء ،(مجلة المسار) يصدرها اتحاد الكتاب مجلة فصلية كان من المفروض أن يصدر اتحاد الكتاب أربع أعداد في السنة فإذا بنا في عهدها لم يصدر اتحاد الكتاب إلا عددًا واحدًا يتيمًا، فأين ندوات اتحاد الكتاب؟ لم تحقق أي ندوة في عهد جميلة الماجري ما عدا ندوة واحدة حول علي الدوعاجي بمناسبة مئوية ميلاده. يعني في نهاية الأمر كنا نأمل أن جميلة الماجري تقدم للكتاب شيئًا، ولهذا الآن أعبر عن ندمي الشديد لدعمها. عالم متغير ويختم المي حديثه مستعرضًا تحديات وتحولات هذا الزمن المتغير بقوله: لا يمكن أن نعيش فترة بدون تحولات وبدون تطورات وبدون تغيرات، لابد أن يعيش العالم ذلك، لكن المشكلة في تسارع نسق الإحداث، فأنا أتسائل هل يقدر العالم على استيعاب كل هذه الأحداث التي تحدث في اليوم الواحد تحدث أحداث تهز العالم.. ربما كانت تحدث هذه الأحداث ولا نسمع بها ولا نعرفها بحكم عدم وجود الفضائيات، ربما أن الفضائيات هي التي كشفت عن شيء لم نكن نعرفه ولم نكن نقدر على استيعابه، ربما.. لا أعرف بالضبط.. ولكن هذه أحداث مسعورة متقلبة فيها العديد من المفاجآت التي شيئت الإنسان، والتي تضاءل أمامها الإنسان، ولم يعد الإنسان هو سيد الكون بل أصبحت هذه الأحداث التي تفرض نفسها هي سيدة الموقف والإنسان مجرد شيء يختبر أو يقع عليه الاختبار ويمتحن في ظل هذه الأحداث بلا حول له ولا قوة.