ما كدنا نخلص من زمن السماع، وتناقل الرواية شفهيًّا، حيث أنهى عصر الاتصال والإنترنت مسألة الكتابة بالسماع، وجعل الكاتب يبحث أولاً عبر شيوخ الإنترنت: جوجل، وياهو، وويكيبديا، قبل الشروع في الكتابة، حتى أتانا زمان “عرفجيّ” يشدنا للوراء، ويجذبنا إلى لحظاته السماعية التي أضفت عليها النميمة إثارة وعنجهية ووصاية لا مثيل لها. فصديقي وحبيبي وقرة عيني الكاتب أحمد العرفج عز عليه أن يبقى صامتًا، أو يقعد ثاويًّا، أو ينتبذ إشكاليات الثقافة ويتخذ مكانًا قصيًا، فيريحنا قليلاً، ويريح، ولا يكلم الناس إلا رمزًا. فلم يجد سوى الفقير إلى ربه العبد لله لأغدو قماشة لحبره الأصفر، فأراد أن يصبغني بما ليس فيّ، وأن يكسوني بسمات لا أعرفها، وأن يحشرني كتابيًّا في زمرة النادمين. هكذا تصوّر العرفج، وهكذا زيّنت له رؤاه وأخيلته، قبل أن يزين له شيطان الكتابة مراودة السمطي. وهأنذا بعد عودتي من الإجازة السنوية التي أمضيتها بالقاهرة مبتعدًا عن الكتابة والقراءة تماما إلا اللمم، وبعد أن فوجئت بما كتبه العرفج بعنوان: “نثر الشطة على تجار الشنطة”، ووسمه لي ب”المسترزق المصري” أقول له: “هيت لك” يا عرفج، ولكن ليس بالزينة، ولا بالضغينة، بل بالحصافة والسكينة والحكمة الرزينة، فاللهم “عرفج” أيامنا، ولا تجعل لساننا ينطق إلا بالحق، ولا تجعل قلوبنا تصدع إلا بما يحصحص، ويوضح، ويبين. بمنطق الوصاية والرقابة يكتب الرجل، فكأن ما أقوم به من كتابة ونشر هو رقيب عليه، أو هو وصي يحدد ويقسم، وتلك إذن قسمة ضيزى، فالكاتب أو المثقف من المفترض أن يكون أكثر ملاحة ومنطقية في آرائه، وأن يقف موقف المتأمل أو المتسائل لا موقف الشاتم ، فوصف “مسترزق” ينطبق على جميع أهل الأرض، من الخفير إلى الوزير، ومن العامل إلى الفلاح، إلى الكتاب والكتبة، فجميعنا نطلب الرزق الحلال من خالق الكون، وجميعنا نصبو إلى أن نربّي أولادنا من المال الحلال، وهو بيّن، كما أن الحرام بيّن، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الأمور المشبهات، فهذه لا أعرفها، وإن كان العرفج يعرفها فأرجوه ألا يدلنا عليها. عمل المرء هو ما يسمه ويصفه، هو جزء منه، وما كتبت من كتابة لم أكتبها إلا لوجه الأدب والفن. فكتابي: “نسيج الإبداع” عبارة عن (40) دراسة ومقالة نشرت جميعًا بالصحف والمجلات السعودية، وأغلبها يتضمن نقدًا حادًّا وجريئًا لبعض الأسماء والظواهر الأدبية والثقافية بالسعودية لم يجرؤ أحد قبلي من النقاد السعوديين والعرب على كتابتها، والعرفج في إحدى لقاءاتنا بالقصيم أكد على ذلك، وذكر لي بلسانه أنني “ناقد مختلف، ولم يسبق أن مرّ ناقد عربي بالسعودية وتحدث بجرأة”، بل كان معظمهم يمارس التبخير والتطبيل، والمجاملة والعرفج يعرف ذلك، فكيف تصبح الجرأة استرزاقا بالمفهوم العرفجي، وكيف تصبح “الحدة” أحيانًا نوعًا من الرياء؟ أما كتابي عن الأستاذين تركي السديري أو سعد الغامدي فهما كتابان نقديان يرصدان بعض الظواهر الفنية في المقالة، وفي الشعر التقليدي والرومانتيكي، ولم أقل أبدًا إن هذا أعظم كاتب، وهذا أفضل شاعر، فأفعل التفضيل ممنوعة من الصرف والكتابة عندي دائمًا، بكتابي عن الأستاذ تركي السديري أردت أن أفتح مجالاً جديدًا للكتابة والتأليف عن الزوايا اليومية في الصحافة السعودية، وزاوية: “لقاء” للسديري واحدة من الزوايا الصحفية القديمة في الصحافة السعودية، ثم إن الكاتب أو الناقد حر فيما يختار من دراسات، وحر فيما يختار من شخصيات أو موضوعات للدراسة، ويبقى العمل هو الفيصل في ذلك، فهل قرأت الكتابين يا أستاذ أحمد.. لا أظن ذلك؟ بل إنك لم تقرأ أيًّا من كتبي لا في الشعر ولا في النقد؟ فكيف تسنّى لك الحكم عليها؟ صديقي وحبيبي وقرة عيني أحمد العرفج: أتصور أن أحكامك في المقالة تم طبخها في جلسة نميمة ثقافية على المقهى، وهذا الأمر لا يجدي كثيرًا في ترويض عمل ناقد أو الكشف عنه وإضاءته وتحليله، ولدي والله من الدراسات المخطوطة ما لا قبل بالنقاد بها ولا بالأدباء وسيأتي نشرها حين يأتي الفرج بإذن الله، والعبد لله ليس من محبي الأضواء والشهرة والدعاية وحضور المجالس والسهرات، فأغلب وقته للعمل والقراءة والكتابة. وحتى يصل الإرسال إلى مسامع العرفج في جدة، كما يتمنى، فإنني سأظل جالسًا تحت شجرة الآية الكريمة: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”. أقول قولي هذا . والله أعلى وأعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.