قلت لها: "علام التقاعد المبكر وأنت لا زلت في عزّ شبابك وقمة حيويتك ونشاطك، ولديك القدرة على العطاء وتحقيق المزيد من النجاحات؟" ردت عليّ بابتسامتها الساحرة وقالت: "لقد أعطيت كل ما لديّ ولا أعتقد أن بامكاني تقديم المزيد، فقد عملت معلمة مدة خمسة عشر عاماً وكنت أقدم مادتي بقالب متجدد سنوياً لكن بعد فترة شعرت بأني أكرر تجربتي السابقة دون تطوير أو تجديد.. وأحساساً مني بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقي وهي تعليم الفتيات وتثقيفهن، وحاجتهن لمعلمة تصل لمستواهن وتخاطب عقولهن وتتلمس احتياجاتهن، والتي لم أعد قادرة عليها.. وبعدها لم أطق المزيد من العمل لشعوري بعدم قدرتي على تحقيق إنجازات على صعيد عملي، ولأتيح فرصة لجيل الشابات والخريجات الجدد بأن يشغلن وظيفتي وهن في أوج حيويتهن وعطائهن.. لذا حوّلت إلى العمل الإداري وشغلت منصب مساعدة المديرة، التي ألقت بجميع مهامها على عاتقي مدة خمس سنوات، حاولت جاهدة أن أتعامل مع مشاكل الطالبات كما كنت سابقاً قريبة منهن متفهمة لطبيعة مرحلتهن العمرية، وكذلك الحال بالنسبة للمعلمات، فحداثة تجربتي كمعلمة جعلتني قادرة على فهم متطلباتهن ومعرفة احتياجاتهن، فكان ذلك من الأمور التي ساعدتني في تخطي العثرات الإدارية بحمد الله، وتحقيق الكثير من الإنجازات على نطاق مدرستي.. لكن دوام الحال من المحال، لذا آثرت التقاعد المبكر حتى أتفرغ لدوري الأساسي في الحياة رعاية أبنائي وبناتي الذين افتقدت القرب منهم خلال فترة عملي الماضية.." وبعد عدة سنوات من التقاعد سألتها مجدداً: "ألا تحنّين للعودة إلى العمل؟" أجابتني: "لا.. أبداً، يملؤني شعور بالراحة والرضا الآن، فبحمد الله قدمت أفضل ما لدي، وتركت ذكرى جميلة في ذهن طالباتي وزميلاتي ولا زلت حتى الآن على تواصل معهن.. وجاء دور قراري في المنزل لرعاية أبنائي وزوجي والاهتمام بصحتي، وأن أقوم ببرّ والدي وأتواصل مع أقاربي وجيراني بعد أن ألهتني الحياة والتزاماتها، كما أني تفرغت لحفظ القرآن الكريم مع صغيرتي.." لو أن كل موظف فكر بأنه مسؤول عن عمله وأنه يؤدي دورا يخدم فيه مجتمعه وبأنه سيسأل عنه يوم القيامة وسيحاسب على تقصيره، وراجع ما يقوم به وقيّم أداءه ليتعرف عن مدى جودة ما يقدم، واعترف بتراجع عطائه فطلب تغيير مجال عمله بحيث يتناسب مع قدراته وخبراته، أو تنحى عن منصبه ليتيح الفرصة للدماء الشابة بأن تضخ في المؤسسة الحياة من جديد.. لما أصبحنا نرى هذا التقصير في أداء مؤسساتنا وموظفيها.. ولما وجدنا كل هؤلاء العجزة وكبار السن ملتصقين بكراسيهم ولا ينظرون لما يدور حولهم من تطور ورقيّ، وطاقات شابة حيوية يمكنها أن ترتقي بالعمل والعاملين.. فمتى يترجل هؤلاء الفرسان؟؟ [email protected]