يبدو أن العروس “جدة” قد ضربت لنفسها موعداً مع المطر لا يخطئه أحدهما، هذا الموعد المحدد زمنيا ب “الأربعاء”، لم يكن تحديده باختيار أي منهما، بقدر ما هو من صنع القدر وتصاريفه. ورغم أن كلمة “موعد” تحمل في مضمونها معاني جميلة وتبشر بخير قادم أو منتظر، إلا أنها في حالة “جدة غير” فهي مختلفة شكلاً ومضموناً. وحكاية هذا الموعد والتي بدأت أول فصولها، وأهل العروس يستعدون لوداع القرن الهجري الرابع عشر واستقبال قرن جديد، ما تزال مرتبطة بهم شاءوا أم أبوا. ففي يوم الأربعاء 19 صفر 1399ه غرقت جدة بمياه أمطار غزيرة وسيول جارفة توقفت معها الحركة المرورية حسبما أفاد معاصرون لتلك الفترة حيث وصفوا هذه السيول التي سموها “سيل الأربعاء” بأنها غير مسبوقة في تاريخ محافظة جدة، حيث عانى الأهالي معها الأمرّين، بسبب عدم وجدود وسيلة لتصريفها. وبعد حوالى 18 عاماً تكرر ذات المشهد حيث هطلت أمطار غزيرة على مدينة جدة يوم الأربعاء الموافق للثالث من رجب عام 1417ه، وقدّرت كمية المياه التي صبتها هذه الأمطار على رأس المدينة وساكنيها بحوالى 300 مليون متر مكعب. ونتج عنها تضرر العديد من السكان حيث دخلت المياه إلى المنازل و تراكمت في الشوارع لتفرض حالة الطوارئ في العديد من القطاعات كالأمانة ومصلحة الصرف الصحي والدفاع المدني. واستمرت هذه السيول والأمطار الغزيرة حتى الرابع عشر من نفس الشهر. عودة قاسية وعلى مدى نحو 14 عاماً لم تواف “العروس” من تعودت على لقائه في ذات الموعد “الأربعاء” ، حتى أن سكانها خيل إليهم أن “إتفاقية الشراكة” على هذا الموعد قد إنتهت إلى غير رجعة، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث تجدد الموعد الذي كادوا أن ينسوه ولكن بصورة أكثر قسوة ومرارة. حيث أستيقظ سكان هذه “المدينة الحالمة” ، أو التي كانت هكذا قبل أن يعبث بها الإهمال والفساد الإداري، يوم الأربعاء 8 ذو الحجة 1430ه على أمطار غزيرة تهطل على مدينتهم الساحلية استمرت لعدة ساعات دون توقف، ووجدت محافظة جدة نفسها أمام كمية أمطار غير مسبوقة بلغت 96 مليمتراً، فسارع صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز محافظ جدة إلى ترؤس اجتماع عاجل للجهات المعنية لإحتواء الموقف وإتخاذ التدابير اللازمة للتقليل من الخسائر، فيما أنشأ الدفاع المدني مركز إسناد للطوارئ لمتابعة مستجدات السيول ومحاصرة بحيرة المسك. إلا أن الفجيعة هذه المرة كانت أكبر من أي تصوّر حيث وصل عدد الضحايا إلى 122 قتيلاً بين مواطن ومقيم، إضافة إلى تضرر 11799 عقاراً و10913 مركبة، بحسب بيان للدفاع المدني. وكانت النتيجة تشرد آلاف الأسر التي فقدت منازلها قبل أن يتم إيواؤها في الشقق المفروشة، وإغلاق العديد من المدارس المتضررة وتعطل أبنائنا وبناتنا الطلاب والطالبات عن طلب العلم لفترة من الزمن، فضلاً عن توقف رفع الأذان وإقامة الصلوات وحلقات التحفيظ والذكر في عدد من بيوت الله، وخسائر مادية لا حصر لها في مختلف أحياء جدة. إعلان الحرب على الفساد وتأكيدا على فداحة الكارثة أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمرا ملكيا كريما عبر فيه عن حجم الصدمة الكبيرة التي أحدثتها هذه الفاجعة مقدما مواساته لذوي الشهداء وكافة المتضررين معلنا عن تقديم مليون ريال عن كل شهيد، وموجها بتقديم العون للمتضررين من إيواء وإعاشة وإعانة وكل ما يحتاجونه. ولم يكتف المليك المفدى بذلك بل أعلن الحرب على الفساد بكل أشكاله وأنواعه، حيث أمر بتشكيل لجنة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة للتحقيق والتقصي حول أسباب هذه الكارثة ومحاسبة كل من يثبت تقصيره أو إهماله، على أن تطال التحقيقات كل من له صلة بالقضية ماضيا وحاضرا أيا كان موقعه ومكانته. خوف وهلع وقبل أن تنطوي صفحة فاجعة الأربعاء، وقيل أن تجف دموع ذوي الشهداء، وقبل أن تعود أسر عديدة إلى مساكنها المتضررة، وقبل أن تلملم العروس أطراف ثوبها الذي تمزق إهمالا رغم الإعتمادات المالية الكبيرة للمشاريع التي نسمع ونقرأ عنها، قبل كل هذا وذاك فوجئ الأهالي بتساقط المطر ثانية ليلة الأربعاء الماضي 6محرم 1431ه، ليضع الجميع أيديهم على قلوبهم خوفا من تكرار الكارثة، ويسارع من كانوا خارج منازلهم بالعودة إليها، وترتفع الأكف داعية المولى عز وجل أن يلطف بعباده ويجنبهم مثل ما عانوه في “الأربعاء المشهود”. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لدعواتهم بأن توقفت السماء عن سكب كل ما في جوفها على هذه المدينة المكلومة والتي لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من النكبات في ظل تهالك بنيتها التحتية وما كشفت عنه هذه الكارثة من سوء في تنفيذ مشاريعها. وفي مدن أخرى ويبدو أن العروس المعروفة بكرمها لم تشأ أن تستأثر بحظوة هذا الموعد “الأربعاء” دون غيرها من مدن المملكة الأخرى، إذ تكررت أمطار الأربعاء في عدة مدن وفي سنوات مختلفة ومن ذلك ما حدث يوم الأربعاء 7 ذو القعدة 1429ه، حيث هطلت أمطار غزيرة على منطقة القصيم شملت محافظات المنطقة وقطعت السيول الطرق في عقلة الصقور لارتفاع منسوبها في مجاريها وقوة اندفاعها، واستنفر الدفاع المدني جهوده للوقوف على الأوضاع. وقال مواطنون في بريدة والرس وعنيزة وعقلة الصقور : إنهم لم يشاهدوا مثل هذه الأمطار قوة وغزارة منذ سنين طويلة. وفي عصر يوم الأربعاء التاسع من ذي القعدة 1430ه هطلت أمطار شبه غزيرة ، على أعلى وادي رهجان ، وأعلى وادي ضيم في جنوب شرق مكة. وشملت أمطار الأربعاء الماضي 6 محرم 1431ه بالإضافة إلى محافظة جدة، كلًا من مكةالمكرمة وضواحيها، الجموم، الطائف ومراكز الحوية والحلقة ومسرة والمحاني وأم الدوم ومران، رابغ، خليص، عسفان، الخرج، حوطة بني تميم، ومراكز الدلم والهياثم ونعجان والضبيعة والسلمية واليمامة والتوضحية والصحنة وماوان والرغيب الحلوة والقويع والعطيان والفرعة وأسفل الباطن والفرشة والسلامية ووادي برك والحيانية والسوط والسليم. وماذا بعد؟ ** وبعد كل هذا .. قد لا نستغرب اجتماع أهالي جدة من أجل فضّ هذه الشراكة مع المطر وإلغاء موعد الأربعاء، بل وربما يذهبون إلى أبعد من ذلك بتوقيع جماعي لكل سكان المدينة مواطنين ومقيمين يمنعون فيه ضرب أي مواعيد في هذا اليوم، وقد يمتد هذا الإتفاق إلى مدن أخرى من تلك التي زارها المطر يوم الأربعاء أو حتى تلك التي لم يزرها بعد خوفاً من تكرار فاجعة جدة. ولكن يبقى السؤال “هل بالإمكان إلغاء موعد لم يكن باختيارهم؟ ... بالطبع لا وألف لا، وبالتالي لا يبقى أمام سكان العروس سوى أمل بمزيد من الإهتمام بشأن مدينتهم وتحسين بنيتها التحتية لتتمكن من الصمود في وجه المطر أياً كان يوم مجيئه سواء حافظ على الموعد القديم أم أختير له غيره ... وقد بدأت بواكير هذا الإهتمام وبصورة قوية من أعلى قمة في الدولة من خلال إعلان خادم الحرمين الشريفين الحرب على الفساد وتشكيل لجنة للتحقيق والتقصي والمحاسبة برئاسة أمير هذه المنطقة والذي عرف عنه قوة الإدارة والمتابعة وعدم التهاون مع أي تقصير في كل ما من شأنه خدمة المنطقة ومواطنيها.