بسبب هذه القاطرة العتيقة غابت ثقافة المحاسبة، وأدمن الناس فضيلة الرضا . قاطرة قديمة عتيقة أصيلة لم يعد لدى أحد مثلها.. أين يكون مكانها ؟ على خطوط السكك الحديدية تسرح وتمرح، وفي ساحات السباق تنهب الطريق، أم في المتاحف وفي الصور التذكارية وكتب التاريخ؟! أغلب الظن أن مكانها في متاحف التاريخ حيث يتاح لزوّارها التعرّف على كيف كان الأجداد وكيف عاشوا ؟ فما بالكم اذا ما صادفناها على السكة بطيئة منهكة تجرّ خلفها سبعمائة عربة قطار بعضها عتيق مثلها وبعضها جرى تحديثه ونال بعض الطلاء؟.. هذا هو حالنا مع التاريخ .. هكذا قلت لصديقي الذي كان يسأل عن السرّ وراء تأخرنا وبطء حركتنا فيما تنهب قطارات الأمم من حولنا الطريق باتجاه المريخ، فالقاطرة الأمريكية الحديثة لا تجرّ وراءها سوى 240 عاماً، فيما تجرّ القاطرة المصرية العتيقة نحو سبعة آلاف سنة، أي ظلم يحيق بقاطرتنا ونحن نصرّ على تحميلها بأكثر مما تطيق، مكتفين بالغناء لجذورنا العميقة وعمرنا المديد وتاريخنا الثقيل الوطأة؟ ولهذا تتعثر خطواتها، وتتصادم عرباتها ويموت بعضنا تحت عجلاتها العتيقة دون أن يسمع صراخه أحد. القاطرة في مثالنا هذا ليست آلة عصرية أو عتيقة، ولا هى تقنية حديثة أو قديمة، لكنها “حالة” تحاكم جمود الفكر، وتنعي أسبابه ودواعيه، فلسنا بالضرورة في حاجة الى امتلاك تقنية صناعة القاطرات، لاجتياز مأزق تشي به صورتنا الراهنة، سواء أمام أنفسنا في المرآة، أو أمام الآخر من حولنا، لكننا في مسيس الحاجة الى ثورة فكر، يتحرر من أسر الماضي، ويتطلع بعناد نحو المستقبل. قاطرتنا العجوز المنهكة التي تجرّ خلفها سبعمائة عربة بحاجة الى أن نريحها وأن نكرمها فنضعها حيث ينبغي لها ان تكون، في متحف التاريخ، شاهداً على عظمة الأجداد وما قدموه للإنسانية، ودافعاً لكل من يراها من الأبناء الذين يريدون لمس الجذور بأيديهم لاكتساب الثقة، واستيعاب حقائق التاريخ، ورسالة الى العالم من حولنا بأننا لم نعد أسرى ماضينا، لكنه هو الأسير لدينا في متاحفنا داخل فترينات العرض الزجاجية المقاومة للرصاص والمزودة بأجهزة الرصد الالكتروني والإنذار المبكر. استدعيت مثال القاطرة من الذاكرة، وأنا أتابع خبر طلب القبض في بريطانيا على تسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما الاسرائيلي ووزيرة الخارجية السابقة في حكومة أولمرت التي شاركت بالتخطيط والتدبير والتنفيذ لجريمة حرب غزة أواخر العام الماضي، الأمر الذي دعا ليفني الى إلغاء زيارتها للعاصمة البريطانية، تفاديا لحرج دبلوماسي وفضيحة سياسية ومحاكمة جنائية، عن جرائم حرب ما عاد بوسع اسرائيل انكارها بعد ما جاء في تقرير جولدستون. فالقاضي البريطاني الذي أصدر أمر القبض على ليفني، ربما كان أحد أحفاد بلفور صاحب الوعد المشؤوم، وربما كان جدّه صهرا لأنتوني إيدن رئيس الحكومة البريطانية الذي تآمر مع بن جوريون لغزو مصر في العام 1956،لكنه مع ذلك استطاع مستفيدا من كونه أحد مواطني أعرق الديموقراطيات في العالم اليوم ان يستصدر هذا القرار بإلقاء القبض على ليفني اذا ما وطأت التراب البريطاني بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة أواخر العام الماضي 2008. كلنا نعرف بعد ذلك كيف أن الأمر القضائي لم يعد له محل من الإعراب بعدما تراجعت ليفني وألغت زيارتها فيما يبدو بناء على نصيحة أمنية بريطانية، الأمر الذي قد يضع جهات أمنية بريطانية في دائرة الاشتباه، لكن أحدا منا لا يعرف على الأرجح لماذا يستطيع قاضٍ بريطاني أن يصدر قرارا كهذا ولا يستطيع قضاة آخرون في دول لديها تاريخ من العداوات مع اسرائيل أن يفعلوا كما فعل؟.. ولماذا تنجح محاولات توقيف بينوشيه ديكتاتور شيلي السابق في بريطانيا ذاتها على خلفية اتهامه بانتهاك حقوق الانسان في بلاده ولا تفلح محاولاتنا نحن لتوقيف اسرائيليين مازالت أيديهم ملطخة بدماء الأبرياء من الفلسطينيين والعرب في قانا وسيناء وغزة وجنين؟! إنها القاطرة العتيقة ذاتها أيها السادة التي لم تذهب بعد الى المتحف، ويصرّ المسؤولون عنها على أن بوسعها أن تنهب السكة وتربح السباق. فبسبب هذه القاطرة العتيقة غابت ثقافة المحاسبة، وأدمنت الشعوب فضيلة الرضا باعتبار أن ما حدث ويحدث هو قضاء لا قِبلَ لأحد بردّه، وبسبب هذه القاطرة أدمن الناس فضيلة الانتظار الذي سمّوه تجملاً ”الصبر” ثم راحوا يصفون هذا الصبر الشديد المرارة بأنه” جميل” فيقولون لك إذا غضبت: “ الصبر جميل” وقد يكون الصبر جميلا فعلا، لكن ما استقر في ثقافتنا على أنه الصبر ليس صبرا ولا جميلا لكنه استكانة واستهانة قادتنا في ماضينا وحاضرنا الى المهانة. غياب ثقافة المحاسبة قاد بدوره الى غياب ثقافة النضال القضائي، فالمحاكم عندنا بطيئة والقوانين عتيقة، وان كنت محظوظاً وحصلت على حكم قضائي بعد بضع سنوات فقد لا تستطيع تنفيذه بسبب فساد الذمم، أو سطوة أصحاب المصالح، حيث القانون من وجهة نظر ذوي النفوذ هو تلك القواعد التي يخضع لها من لا يملك القدرة على ردّها. وهكذا فقد استقر في وجدان ركاب عربات القاطرة العتيقة أن اللجوء للمحاكم مضيعة للوقت، وأن على طلاب الحقوق أن يفتشوا عن طريق آخر عبر الأبواب الخلفية لاستعادة حقوقهم أو حتى للحصول على ما ليس لهم فيه حق. هذا الذي استقر في الوجدان هو ما يمنحنا الإجابة عن السؤالين: لماذا لا نناضل عبر المحاكم الدولية وغيرها لاستعادة حق ضائع أو ملاحقة مجرم هارب؟ ولماذا أفلحت ملاحقة بينوشيه في بريطانيا في مطاردة الرجل حتى وافته منيّته، بينما يجري اجهاض أية محاولة لملاحقة مجرمين ومصاصي دماء استباحوا أرضنا وعرضنا ودماءنا .؟! الحل ليس في التخلّّي عن حق لنا، ولا في محاولة الحصول عليه عبر العنف المسلح الذي يلاحقه العالم الآن موصومًا بالإرهاب، وانما فقط غيّروا القاطرة العتيقة، حدّثوا القوانين، وافتحوا النوافذ للأفكار واشرعوا الأبواب للمبادرات ففي أوطاننا التي صنعت هذا التراث العظيم القيمة، الثقيل الوطأة، ذخيرة لا تنفد من عوامل النجاح والتفوّق.