وأنا أقصد هنا المهندس زكي فارسي الذي كان تقريره أحد أجراس الإنذار التي قرعها مواطنون مخلصون للتنبيه لأوجاع عروس البحر فقد وضع خلاصة أفكاره أمام النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء قبل عدة شهور من الكارثة ليس لأنه يملك بلّورة سحرية رأى من خلالها بوادر الكارثة ولكن لأنه تقصي من خلال دراسة عملية مشاكل جدة التي يعرف أرضها وتضاريسها وسيولها ووديانها فهو أول من وضع خرائط جغرافية علمية للمدن السعودية، ناهيك عن أنه ابن جدة .. لذا فهو أدرى بشعابها. وأهم ما لفت انتباهي في مقابلة المهندس زكي فارسي مع تركي الدخيل في برنامجه الناجح (إضاءات) هي أنه لم يدع أنه أول من حذر من كارثة سيول جدة، كما اقترح الأستاذ تركي الدخيل، فقد أشار دون تواضع مصطنع بأن هناك كثيرين غيره فعلوا ذلك، بل وأن بعضهم سبقوه في الإشارة إلي خطورة أوضاع الصرف الصحي وتصريف السيول في مدينة جدة. ولقد أكبرت في المهندس زكي فارسي إحجامه عن توجيه إصبع الاتهام إلي جهة معينة، أو فرد معين، بل آثر استعراض الكارثة ومسبباتها تاركا للناس الحكم. كما أنه «لم يجد في الكارثة فرصة لتسوية أزماته، وتصفية حساباته، بل وضع المشكلة الوطنية قبل كل شيء، كانت على رأس سلم أولوياته». وهناك أكثر من وقفة في اللقاء أجد من الأهمية إبرازها : - إن كارثة سيول جدة هي إنذار لما تعانيه المدينة من تباطؤ في تطور بنيتها التحتية الأمر الذي سيجبر المسؤولين على إعادة تقييم الوضع الذي وصفه الفارسي بالواقع المرير في جدة. - أن وضع اللوم علي العشوائيات كسبب مباشر أو غير مباشر للكارثة هو أمر بعيد عن الواقع. وأثبت من خلال خرائطه ومعلوماته العملية علي أن هذه العشوائيات عملت في الواقع كمصدات كان يمكن لولا وجودها تزايد حجم الكارثة علي بقية أحياء جدة الرئيسة. - أن المنطقة المغطاة في الصرف الصحي لا تتجاوز 8% من مساحة جدة. كما أن شبكة تصريف السيول غير مكتملة. ولو أن السيل جاء مع عدم وجود «الأحياء العشوائية» فإن الكارثة كانت ستكون أكبر علي معظم أحياء جدة. - أن السيل تعدي المناطق العشوائية وأجتاز الخط السريع (طريق الحرمين) وانتقل إلي غرب المنطقة ودمر أحياء (غير عشوائية)، ومنها جامعة الملك عبدالعزيز التي طالتها الكارثة وتعدت خسائرها المليار ريال وفق ما صرح مديرها. - ست ساعات من المطر أدت إلى كارثة .. فما بالك لو أن المطر أستمر أكثر من ذلك؟! - كشفت الكارثة عن وجود فساد مستشرٍ في الأجهزة الحكومية يدفع ثمنه المواطن بشكل يومي دون أي ذنب منه. - أن قرار خادم الحرمين تجاه الكارثة يجب أن يعتبر ورقة عمل نبني عليها خطط عمل إستراتيجية علي مستوى المملكة. وهي فرصة لوضع أنظمة جديدة للتعامل مع المشاكل الحكومية، بل لتغيير «العقلية الإدارية» تُدار بها وزاراتنا ومنشآتنا الحكومية. - إن المشكلة ليست فيما تعتمده الدولة من أموال لتنفيذ المشاريع ولكن في انعدام الرقابة علي تنفيذ هذه المشاريع والتأكد من أن هذه الأموال قد صُرفت في مصارفها المُعتمدة ولم تتبخر في الهواء .. وبالتالي لم تظهر آثارها علي أرض الواقع.