ورد في إحدى الإحصاءات أن في أمريكا 94،2 مليون متطوع، قدموا 20،5 بليون ساعة عمل تعادل إنتاج 9 ملايين موظف متفرغ، بقيمة إجمالية تقدر ب176 مليون دولار وذلك خلال عام واحد ، وعندما نطالع ذلك ونضيف إليه الدور المتنامي لمؤسسات المجتمع المدني وتأثيرها على سياسات الحكومات والقضايا الدولية مثل مشكلات تغير المناخ والتسلح النووي، واليوم في المجتمعات الحديثة صار القطاع المدني التطوعي يمثل منظومة متكاملة شاملة تمثل ركناً ثالثاً في بناء المجتمعات الحديثة مع القطاع الحكومي والقطاع الأهلي، واعتمدت كثير من الدول المتقدمة والمنظمات الدولية توظيف المنظمات الطوعية في مشاريع التنمية، واعتبرت الأممالمتحدة ركائز الحكم الراشد: الدولة والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية. هذا المدخل يكشف عن هوة كبيرة بين هذا العالم المتحرك المتفاعل الذي تتطور فيه آليات ومجالات المشاركة الشعبية، وواقع شعوب العالم الثالث التي -في الجملة- لم تحظ بقدر مقبول من المشاركة السياسية لأسباب يمكن فهمها لكنها كذلك شبه معطلة ومقيدة في مجال المشاركة الاجتماعية من خلال العمل التطوعي المنظم في صورة مؤسسات المجتمع المدني، وذلك بإضافة المزيد من تعطيل الطاقات وزيادة المشكلات في تلك المجتمعات. العمل التطوعي هو «تقديم الفرد باختياره وقته وجهده وماله وفكره لتحقيق أهداف تخدم وتنمي الفرد والمجتمع في مجالات متعددة»، وعلى المستوى المؤسسي هو «تقديم منظومة مؤسسية تطوعية جهوداً بشرية وعلمية ومالية وفكرية لتحقيق أهداف تخدم وتنمي العالم وتدافع عن حقوق البشر وكوكب الأرض في المجالات المختلفة»، وعند التأمل نجد لهذا المفهوم تأصيل أساسي في إسلامنا . فالله تعالى يقول «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون»، ويقول كذلك «وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين»، ولا يخفى بعد الربط بين العبادات وفعل الخيرات الذي يفتح الباب على مصراعيه لكل عمل فيه خير، ونجد تأكيد ذلك مع ضرب الأمثلة في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «كل سلامي من الناس عليها صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمله عليها متاعه صدقة ... ويميط الأذى عن الطريق صدقة» وفي حديث آخر ورد قوله: «تبسمك في وجه اخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الظلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)). ومما ينبغي الانتباه له أن للعمل التطوعي أبعاداً وجذوراً إنسانية مشتركة تتعلق بالفطرة الإنسانية وعمادها عاطفة الرحمة والشفقة وطبيعة المشاركة والمواساة، ولا ننسى أن للتطوع صلة وطيدة بالناحية الاجتماعية فالإنسان مدني بطبعه ويحب العلاقات ويميل إلى المشاركة في الخدمات، كما أن التطوع يشبع حب الذات والقدرة على الإنجاز، كنا أن الوطنية عامل مؤثر لأن الفرد يحب خدمة وطنه ويسعى لتقدمه وعلاج مشكلاته ويشعر بالتحدي في مجال التنافس بين الدول والمجتمعات في ميدان التقدم سيما وأن التطوع وفاعلية المجتمع المدني دخلت ضمن المعايير المعتمدة دولياً في تقييم الدول وتقدمها، وفي عالم ثورة الاتصالات والقرية الواحدة نجد نقل التجارب والاستفادة من الخبرات سمة ظاهرة للمجتمعات الحية والنخب الفاعلة وخاصة الجيل الجديد من السباب والشابات. إننا في حاجة ماسة إلى تسويق مفهوم التطوع ودعم المتطوعين وتوسيع دائرة مؤسسات المجتمع المدني كماً ونوعاً ولتحقيق ذلك لابد من العمل في ثلاثة محاور، أولها: المحور الثقافي المعرفي، فلابد من إشاعة ثقافة التطوع والتعريف بمفاهيمه، وهنا لابد أن يكون ذلك في صلب مناهج التعليم الأساسية والجامعية نظرياً وعملياً، كما أنه لابد أن يكون ضمن رسالة وسائل الإعلام بشتى أنواعها، فضلاً عن كونه جزءاً من رسالة المسجد، وقبل ذلك ومعه أن يدخل التطوع ضمن مفاهيم التربية الأسرية داخل البيوت. والمحور التأهيلي التدريبي هو ثاني المحاور، إذ لامناص لنشر التطوع من تأهيل المتطوعين وتدريبهم في مجالات التطوع المختلفة، فمن دورات الصحة العامة والإسعافات الأولية في القطاع الصحي إلى دورات طرق التعليم لمحو الأمية، إلى التدريب على العمل الإغاثي وأعمال الإنقاذ والعمل في الكوارث، وصولاً إلى التدريب على الإرشاد الاجتماعي والعلاج النفسي وثير ذلك كثير. والمحور التنظيمي القانوني ثالث المحاور وربما كان أكثرها أهمية وهو متعلق بإعطاء الصفة القانونية للراغبين في العمل التطوعي وخدمة المجتمع وأن تسهل الإجراءات وتشجع المجموعات على تأسيس مؤسسات وجمعيات لخدمة المجتمع في شتى المجالات والتخصصات. أما الوضع الحالي الذي تغيب فيه ثقافة التطوع، وتنعدم برامج التأهيل، وتوصد أبواب الترسيم والتنظيم فهو الذي تعاني منه دولنا وشعوبنا ولابد من الإسراع في تغيير هذا الواقع بتعاون وتكامل حكومي شعبي لأن الفوائد من وراء ذلك عظيمة ودوائرها واسعة، إننا فقراء في المؤسسات ومتأخرون في التدريب ومشغولون عن الثقافة والوعي ونحتاج إلى توحيد الجهود لتلافي ذلك والانطلاق إلى آفاق أرحب وأقوى، والأمل في شبابنا كبير كما رأينا نموذجهم التطوعي الإيجابي المتميز في كارثة سيول جدة فهلا التفتت الوزارات والإدارات الحكومية إلى تلك الطاقات والخبرات لتفتح لها آفاق العمل وأبواب التعاون والتكامل لمصلحة الوطن وخدمة المواطنين بدلاً من الجمود والبقاء في أسر البيروقراطية التي عفا عليها الزمن، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.