في سنوات مضت كان العمل الخيري شامة مشرقة في جبين هذا البلد المعطاء ، وكان الناس يتنافسون في البذل والإنفاق ، والمؤسسات الخيرية تتسابق في بذل المعروف ، وإغاثة الملهوف ونجدة المنكوب ، كانت بذور هذه الأيادي البيضاء تورق في شرق العالم وغربه ، وتزكو ثمراتها في أدغال أفريقيا وجنوب شرق آسيا وتمتد أغصانها لتصل إلى آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية . سنوات مشرقة بالتعاون على البر والتقوى ، فلا تمر كارثة في العالم الإسلامي إلا تجد المؤسسات الخيرية في قلب المأساة ، تداوي الجرحى ، وتطعم الأطفال ، وتخفف من المصاب ونجحت في توظيف طاقات الشباب واستنهاضهم خفافا وثقالا وكانت الأكف البائسة تحوطنا بالدعاء والثناء ، وتبتهل إلى الله – عز وجل – بأن يكف عنا الشرور والمصائب دعوات نحسبها صادقة خرجت من قلوب منكسرة ملتجئة بالله عز وجل ، دعوات ليست متكلفة ولم تشبها شوائب النفاق أو التزلف ! اسألوا إن شئتم أبناء النيجر ونيجيريا .. اسألوا دور الأيتام في كينيا وتنزانيا والصومال .. اسألوا مخيمات بنجلاديش و سريلانكا وبورما .. اسألوا فقراء وأرامل ألبانيا والبوسنة .. وستجيبكم بصوت واحد : أن طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا . وستردد صدى هذه الدعوات المآذن والمراكز والمدارس الإسلامية التي ارتفعت راياتها لنشر العلم وتجديد الدين . كانت الصورة الذهنية التي تملأ الآفاق .. كل الآفاق .. أن هذا البلد هو بلد العطاء والمحبة والنصرة .. وكان الناس جميعا شركاء في بناء هذه الصورة .. من الطفل الصغير الذي كان يقتطع من مصروفه اليومي لنصرة المستضعفين ، ومرورا بشتى طبقات المجتمع شيبا وشبابا ، رجالا ونساء . ثم .. ماذا بعد ؟! فاجأتنا سنون عجاف كبلت فيها الأيدي عن العطاء والإنفاق بحجة تجفيف المنابع ، وزجت المؤسسات الخيرية في قفص الاتهام، وأصبح رجاله ورواده متهمون بالإرهاب ، ثم ثار بعض الصحفيين وأهل الأهواء على العمل الخيري -جملة وتفصيلا - ، وراحوا يرددون التهم الغربية بدون وعي أو عقل ، و يدفعون أهل الخير إلى الانكفاء والتقوقع ، ويتكلفون اصطناع التعارض بين عمل الخارج والداخل .. ونجح الغرب في عزلنا عن إخواننا .. وقطعت أجنحة العمل الخيري ، واختزلت برامجه بشكل متسارع ، وحوصرت بقيود صارمة ! في هذه الأثناء أغلقت كثير من دور الأيتام والمستشفيات، وهجرت كثير من المدارس والمساجد ، وأهملت الآبار والمراكز التنموية . و في ظل هذا الضجيج فجعت الأمة الإسلامية بكارثتي تسونامي في إندونيسيا ودارفور في السودان ، وأهلك الجوع صحارى النيجر وتشاد ، وارتفع أنين الأطفال والنساء والشيوخ في غزة .. واستنصرنا العجزة والضعفاء ، ثم استنصرونا ثانية ، ثم استصرخونا بألم وحرقة ، ولكن لم يجبهم إلا المنقذان : العي والصمم .! ثم .. ماذا بعد ؟! فاجأتنا زلازل العيص وحرب الجنوب و كارثة جدة .. وبدأنا نسمع بنزوح عوائلنا ، وبمخيمات الإيواء والمنكوبين ، ونرى جموع المتضررين والملهوفين .. معاصينا كثيرة -نسأل الله السلامة - ، ولهذه المحن والابتلاءات أسباب عديدة ، لعل منها : انقطاع دعاء المستضعفين الذي كان يحفظنا بحفظ الله ، وتأملوا معي قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أبغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم» ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، و الآفات والهلكات» . وقوله عليه الصلاة والسلام : «إن الصدقة لتطفىء غضب الرب وتدفع ميتة السوء» .. إن العمل الخيري سر من أسرار النعيم الذي نتفيأ ظلاله ونتمتع بخيراته ، وبركة الصدقة وثمراتها تمتد لتقي المجتمع كله من الآفات والهلكات . ومن الواجب أن يحرص العقلاء على اتقاء مصارع السوء بفعل الخيرات وتوسيع دائرته في جميع الطبقات . وقد آن الأوان لبناء التوازن من جديد ، وتصحيح رؤيتنا للعمل الخيري ، إننا بحاجة إلى إطلاق مبادرة جادة من أجل ترسيخ جذور العمل الخيري ، وتنظيمه وترسيخ آلياته ، والارتقاء بأهدافه وبرامجه ، و إعادة الاعتبار لمؤسسات ورجالات العمل الخيري ، ولن يتحقق ذلك إلا بتعزيز الثقة أولا بمؤسساتنا ، ثم ببناء شراكة حقيقية بين المؤسسات الرسمية والتطوعية .. وليس من الشرع ولا من العقل تجاهل معاناة المسلمين والإعراض عنها ، و إسلامهم للمنظمات التنصيرية التي استهدفت عقيدتهم وثقافتهم وجذورهم الحضارية . إن ثمة حقيقة مهمة يجب التأكيد عليها ، وهي : أنه لا يوجد تعارض على الإطلاق بين العمل الخيري في الداخل والعمل الخيري في الخارج ، بل بينهما تكامل يحقق المصالح الشرعية ، إما افتعال التعارض أو التناقض فهذا غير صحيح ، ومقتضى الحكمة أن ندرك أن الأولويات الخيرية تتغير بسبب الحاجات التي تمر بالمجتمعات .. ولقد أثبتت كارثة جدة أننا أحوج ما نكون لترسيخ ثقافة التطوع ، وتوسيع آفاق العمل الخيري ، و توظيف كل الطاقات لتحقيق التكافل الاجتماعي في المجتمع .