بما أن الفن نشاط إبداعي يهدف إلى جذب اهتمام المتلقي إلى نواحي الجمال وتنمية تجاربه التأملية ليصل به إلى ذروة متعة التذوق والاشباع الجمالي والعاطفي، بالإضافة لكونه تعبير فكري عن رؤية وثقافة وواقع العصر؛ فبتحليل الجمالي لأي منتج فني نكتشف حقائق عن الحياة بشتى صورها وأساليب الأداء الفني المختلفة. تلتقي أعيننا كل لحظة بالجمال الأكمل في الكون، في الطبيعة، في أنفسنا، في الناس، في الحياة من حولنا.. الطبيعة ومشاهدها مجال خصب ومعين لا ينضب تناولته أطروحات الفنان المبدع؛ ولكن تجاوز الفنان منذ عصور النقل من الطبيعة كما هي في أعماله الفنية نتيجة للتطور الحضاري والفكري كخاصية إنسانية، كما تخلّى عن تمركزه حول ذاته المتخيلة. تجاوز كل هذا فولّد صورًا طبيعية من إحساسه وعقله بالتحليل والتركيب وإعادة الصياغة بما يوافق اهتماماته الفكرية، وبات العمل الفني بقيمه الجمالية الحسية يحوي مضامين فكرية ومعاني رمزية. فبالرغم من بساطة أساليب بعض الأعمال الفنية فإنها محملة بمعاني عميقة ودلالات إنسانية وفكرية ليست بمعزل عن التطور الفكري والحضاري والعطاء الثقافي للإنسان بشتى صوره. تفرض مفردات العمل الفني من عناصر حسية وخيالية وعاطفية ورمزية على المتلقي الاهتمام والتأمل، وبتكرارها تنمو ملكة الإحساس والتذوق بالمنتج الفني واكتساب أدوات جديدة في نظرته للعمل الفني.. أدوات أكثر تفهمًا، وأكثر تحليلاً، وأكثر تركيبًا.. وزوايا جديدة متعددة لمحاولة فهمه للعمل الفني، والكشف عن الجوانب الأكثر أهمية، والتمييز فيما بينها، وتوضيح القيم الفكرية التي ضمنها الفنان منتجه الفني. والفنان الحق ليس بمعزل عن واقعه وقضاياها الاجتماعية وما يحيط به؛ فهو على قدم المساواة مع جميع المناشط الأخرى حوله يتاثر بها ويؤثر ببصيرته وفكره المتفحص وزوايا رؤيته لجوانب فيما يحيط به مغيبة بالكلية عن غيره. وبحجم الكارثة والفاجعة التي ألمت بنا في جدة الأيام الماضية شاهدت أطروحات فنية تنبىء عن رؤية صادقة ومشفقة للفنان وما يدور حوله، شاهدتها في هيئة لوحات تشكيلية كطرح الفنانة بدرية الحربي في لوحتها “صرخة غريق”، والفنان أحمد حسين في لوحته “بعد المطر”، وعمل الفنانة سلمى رومي “جدة يوم الأربعاء” وصور فوتوغرافية موثقة للحدث ولحجم الكارثة في تناولات فكرية لهذه المشاهد. وفي رأيي تظل هذا الكارثة وما خلفته من دمار مصدرًا خصبًا لفكر الفنانين على اختلاف ممارستهم وأطروحاتهم الفنية، ومحفزًا لتعميق فظاعة الممارسات التي سببت كارثة بهذا الحجم؛ لعلها تستنهض الضمير الإنساني، وتدق ناقوس الخطر عن هول تلك الممارسات التي تقترف بحق الإنسان.