قبل عيد الأضحى بيومين، قدّمت جدة نفسها ك(أضحية) على مذبح الوطن.. قالت لنا بدمها الحي: إن الأوطان لا تُبنى بالسرقات، والنهب، والسلب، والمحسوبيات، والعشوائيات، وتراكم الأخطاء، وردود الأفعال، والوعود الكاذبة، والأرقام المزيفة! قالت لنا: إنها بُنيت -ولا زالت تُبنى- على الطريقة الكروية الشهيرة (طقها والحقها)؛ ولذلك حزنت وبكت، في حين كان عليها أن تفرح مرتين: مرة لقدوم المطر، ومرة لقدوم العيد. قالت لنا: إن ما حدث ليس كارثة إنسانية فحسب، بل جريمة بشعة، ارتكبها كلُّ مَن (خطط) لهذه المدينة.. كلُّ مَن أهمل وأفسد، كلُّ مَن قبض من تحت الطاولة.. كلُّ مَن سوّف وحاول أن يغطي على العيوب.. بل كل مَن صمت ولم يرفع الصوت مطالبًَا بلجنة إنقاذ (لا لجنة تطوير) تقوم على انتشال جدة من مستقبلها الغامض، والمليء بالتكهنات السوداوية، سواء تعلّق الأمر بمجاريها وتصريف سيولها، أو ببحيرة مسكها -كفانا الله ويلاتها-، أو ببيئتها التي تقارع أشد المدن تلوّثًا، أو بالفساد الذي يستشري في دوائرها، والذي يحيل كل الاعتمادات المالية إلى سراب في سراب، أو... أو... أو... إنها جدة : بوابة الحرمين ، ورسالة البحر إلى الصحراء ، وملاذ العشاق والشعراء ... إنها المدينة التي تهاجر إليها شمس الوطن كل صباح ، لتستقر في بحرها الدافئ عند كل مساء ... المدينة التي كان ينبغي أن تكون درة تاجنا تجاريا وسياحيا وتنوعا خلاقا ، لا أن تكون وصمة عار على جبيننا . إنها (جِدة) بكسر الجيم رغما عن أنف المتحذلقين في اللغة والتاريخ، تلك التي تعودت أن تفاجئنا بجديدها على الدوام، لأنها ببساطة بوابة العالم إلينا ، وبوابتنا إلى العالم ، لكن جديدها هذه المرة ، كان فاجعة مدوية ، لم ترد في كوابيس أكثر الناس تشاؤما ... جدة التي لا نستحقها لأننا أهملناها : سميناها عروسا ، وعاملناها كغانية ... تركناها قريبا من العيد بشعرها الأشعث ، وثوبها الأبيض الممزق والرث ، تصرخ وتولول : أنا فرحكم وأنتم حزني ... أنا صوتكم وأنتم الأقفال على لساني ... أنا الظهر العاري وأنتم السكين الغادرة !! الآن ، وقد وقعت الواقعة ، لن تسترد جدة شيئا من فرحها ، حتى يتحول مأتمها إلى حدث مفصلي في حياتنا ... حتى تتحول اللجنة التي شكلت للتحقيق في فاجعتها إلى سيف على رقبة كل فاسد “أيا كان” ... سيف يقسم الزمن إلى نصفين ، إلى درجة أن نصل إلى ذلك اليوم الذي نتساءل فيه عند طرح أي قضية فساد في بلادنا ، إلى سؤال من نوع : متى حدث ذلك ... قبل (اللجنة) أو بعدها ؟