أما وقد غِيض الماء، ورست السفينة على هذا الكم الهائل من الدمار والخسائر في الأرواح والممتلكات، فإن البكاء لا يعيد المحبوب المفقود، ولا يعوّض العروس ثوب عرسها الناصع، بعد أن تلطّخ بالوحل، وأوشاب السيول، ولكن استخلاص الحكمة والعبرة ممّا جرى لعروس البحر جدة، هو أمر مطلوب، وفي غاية الأهمية، بعيدًا عن الانفعال وردم الهوة بما لا يُحكم سدها، ولست هنا بصدد الكتابة لتسجيل حضور في كارثة بعد مضي أسبوعين أو يزيد، فقد سالت الأقلام بما يكفي، وتقوّست ظهور الصحائف من ثقل الكلمات والمقالات التي لم تترك شيئًا إلاَّ وتحدّثت عنه بشأن ما جرى للعروس، وإنّما أكتب اليوم لأقول: إن كل الذي قيل بحق الكارثة عن قصور في الأداء وربما اللامبالاة وسوء التخطيط والتقدير كان صحيحًا، وأن وقوف مليكنا المفدى مع المنكوبين وعزمه على محاسبة المقصرين كان متوقعًا وواردًا، وهو أمر يتماشى مع خط الإصلاح الذي انتهجه حفظه الله سبيلاً لبناء الأمة، وأقول كذلك إن أزمة عروس البحر جدة، وخلل التخطيط المتراكم فيها، وعيوب بنيتها التحتية الذي أزاح ستارها السيل، هي من زاوية أخرى تقودنا لإعادة النظر في بنيات أخرى، وخطط لا يمكن للسيول أن تبريها أو تكشف مكامن ضعفها، ويوم ينكشف ذلك بسبب من الأسباب، يكون الأوان قد فات، وأن إصلاحها يتطلب أجيالاً وأموالاً، مثل التعليم الذي بدأ خادم الحرمين الشريفين بإصلاحه من الجذور على سبيل المثال، فلا نهر إلاّ الزمن، ولا سبيل إلاّ هو ليبلو مخرجاته، ويمتحن خواءه من ثرائه، فالواجب والعبرة المستفادة من كارثة جدة، هي أن نتلفت من حولنا لنراجع كل شيء، وأن نفعِّل المساءلة والمحاسبة، وأن لا نترك كل شيء للضمير، لأن الضمير غزالة برية، إن تركت بلا رقابة ولا عناية، فإنها ترعى بحرية زائدة فتعرّض نفسها للافتراس، وقد يتحوّل أيضًا إلى وحش كاسر يقضي على الأخضر واليابس، وكل شيء وارد في غياب الرقابة أو ضعفها. نافذة: رُبّ ضارةٍ نافعة، فقط علينا أن نقرأ ما بين السطور.