كنت مستغرقاً في حوارٍ مع أحد الشباب, حول طريقة التعامل مع الناس والحياة والأحداث ، وأنا أرسم له الصورة الإيجابية التي يحسن أن يعتمدها, وأفنّد بعض الرؤى القاتمة التي تنظر إلى ما حولها بريبة وتشكك! تذكّرت فجأة أن بعض ما يقوله كنت أقوله يوماً من الدهر, حين كنت قريباً من سنّه ، فداخلني تراجُع وهدوء .. وغيرتُ مجرى الحديث ، وقلت له : بعض النتائج يحتاج المرء أن يجرّب ويحاول ويعدّل ويلاحظ حتى يصل إلى النتيجة ، وإذا وصل إليها فقد لا يكون من الإنصاف دوماً أن يطالب الناس بأن يعتمدوها دون تجربة حيوية؛ تنضج عقولهم وتفتح آفاقهم على ما كانوا يجهلونه. الزمن والعمر جزء من النضج ، والنتائج الجاهزة لا يصح أن تُفرض على الأجيال الجديدة، ولا أن تحرم هذه الأجيال من لذة الاستكشاف والمحاولة والخطأ والتصحيح، وإن شئت فقل: لا يصح أن تحرم من قدرٍ معتدل من المغامرة! كما لا يصح أن تذهب تجارب الحياة أدراج الرياح, وأن يكرر الناس الخطأ ذاته, اعتماداً على: دعه يخطئ ليتعلم من خطئه ..من حق الأجيال الجديدة أن تسمع تجارب سابقيها في ميدان السياسة والتجارة والعلم والدعوة والحياة، وأصدق الناس وفاءً للناس هو الذي يمحضهم النصح ، ويرتاد لهم الطريق، ومن قبل قال موسى -عليه الصلاة والسلام-لنبينا -صلى الله عليه وسلم-:(إِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ, وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ) متفق عليه. وقديماً قال الرصافي: إن التّجاربَ للشّيوخِ وإنّما أمَلُ البلادِ يكونُ في شُبّانها وثم نتائج لا يعدل عن رؤيتها والانتفاع بها إلا المحروم ، وأخرى لا يدركها إلا العالمون الموصوفون بالحكمة، ومن الناس من يؤتيه الله الحكمة في شبابه ، بل قال تعالى عن يحيى : (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) والحكم هنا قيل: الفهم، كما قال مجاهد, وقال الحسن وعكرمة: هو اللُّب, وقال ابن السائب العِلْم. والتراكم المعرفي مما يقطع بأثره الضخم في تطوير الحياة البشرية وتوفير الجهد البدني والعقلي فيها للمهمات، واعتماد حقائق ناصعة والبناء عليها في مجالات العلم وضروبه. والتجربة الحياتية المتعلقة بمعاملة الناس الأقربين والأبعدين، أو بسياسة النفس وحسن إدارتها، أو بطرائق التعليم والدعوة والتربية والبناء.. كلها مما حدث له تراكم معرفي ضخم لا يصح معه أن يبدأ المرء من نقطة الصفر، أو يتصرف بمقتضى العفوية البحتة، أو يفعل كما كان أبوه أو مجتمعه يفعل. التجربة التي يمر بها المرء ليست محصلتها بالنتيجة التي توصل إليها، بل هي محفوفة بمشاعر نفسية واعتبارات إنسانية وذكريات وطموحات فهي دورات تدريبية لن يحصل عليها إلا الذين مروا بها، أما الذين سمعوا عنها فحسب، أو عرفوا نتائجها النهائية وحفظوها عن ظهر قلب، فلن يدركوا المشاعر والأحاسيس والأبعاد، ولن يحصل لهم الوقار النفسي والاتزان الفكري الذي ظفر به من خاضوا التجربة وخرجوا منها. أؤمن تماماً بأهمية البناء على التجارب والانتفاع بها والانطلاق منها ، سواء كانت تجارب إسلامية أو غير إسلامية، فالسنة واحدة، والناموس لا يتغير،(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ )، ومن هنا يأتي النظر لأصحاب التجارب باحترام وتقدير ، تقدير للجهد الذي بذلوه ، والصبر الذي أبدوه، والمواصلة والإصرار على الطريق مع كثرة العقبات والمعوقات، ورؤية المتساقطين على جنبات الطريق ممن أخذهم لهاث اليأس، وأدركهم وهن العجز فاختفوا في الزحام، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا! وأؤمن تماماً بأن عبور الزمن وقطع المسافة وخوض التجربة لابد منه لمبتدئي اليوم يتعرفون علامات الطريق وسماته، ويدفعون من جهدهم ووقتهم وعقولهم من أجل الحصول على معرفة أفضل وأدق ليقدموها لأجيال تأتي من بعدهم فتدركهم وقد عركتهم التجارب وحنكتهم الأحداث ولوّحت وجوههم أشعة الشمس، وأدركوا بالمعاينة الحسية أو القلبية ما لم يقرؤوه في كتاب ولا سمعوه من مجرب. ويبقى الصراع بين صاحب تجربة يجد الحكمة فيما وصل إليه، ويشفق على الآخرين أن يبدؤوا من حيث بدأ ، يريد أن يبدؤوا من حيث انتهى، وبين شاب ممتلئ حماساً وحرقة وطموحاً، يشعر أن لديه من الهمة ما يزيل الجبال عن أماكنها. الأول: وصل إلى نقطة التوازن بين المطلوب والممكن، بين المقدور عليه والواجب، ولعل بعض إخفاقاته أوهنت عزيمته أو أوهت طموحه. والثاني: يجد في قوة الاندفاع ما يصرفه عن مشاهدة التعويق داخل نفسه أو في الآخرين أو في الممانعات والرياح التي تجري بنقيض ما يحب ، فإذا رزق حلماً وأناةً تجاوز ذلك إلى بحبوحة الحكمة الشرعية, التي يقول صاحبها -عليه الصلاة والسلام- «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْمَلُوا وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ « ويقول :» إِنَّ لِكُلِّ عَملٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلاَ تَعُدُّوهُ» ومعنى: أشير إليه بالأصابع أي اجتهد وبالغ في العمل ليصير مشهورا بالعبادة والزهد وصار مشهوراً مشاراً إليه..وهكذا يبدو الزمن جزءاً من العقل الكسبي التجريبي لا يكاد المرء يتصور نضجاً تاماً ووقاراً وحكمة إلا والزمن شرط فيها. هذا المعنى يطامن من طموح الشباب واندفاعه, ويهدئ من عتبه على الكبار ، وهو في ذات الوقت يعترض على إصرار الشيوخ على أن يكونوا سادة الموقف في كل أمر, وأن يفرضوا تجربتهم الخاصة المحكومة بظروفها على شباب لم يخوضوا التجربة ذاتها .