أب تنهمر دموعه بعد أن فَقَدَ طفله، وتتعالى صرخاته لزوجته وأبنائه بالابتعاد عن مجرى السيل، ولكن عاطفة الأمومة أبت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة إلاَّ بجوار طفلها.. ومواطن آخر يقف مذهولاً فاقدًا الحِراك، وهو يرى بأم عينه موت زوجته وثلاثة من أبنائه، وشقيقته، وينادي بأعلى صوته: “حسبي الله ونعم الوكيل”. إنها بعض المشاهد المروّعة التي خلّفتها الأمطار الغزيرة التي هطلت على مدينة جدة الأسبوع الماضي، وتسبّبت في حدوث أضرار إنسانية وبيئية. إن ما شهدته مدينتنا يؤكد أنها مأساة بكل المقاييس، كان بطلها جهات مسؤولة لم تؤدِّ واجبها تجاه الوطن على الوجه الأمثل، الأمر الذي يوضحه انتشار الأحياء العشوائية في المحافظة، وعدم تنفيذ شبكات الصرف الصحي وتصريف السيول، بالإضافة إلى انتشار تشييد المساكن في بطون الأودية ومجاري السيول. وجاء الأمر السامي من المليك بتشكيل لجنة عاجلة لتقصّي الحقائق في أسباب تلك الفاجعة؛ ليضمد الجراح، ويجسّد مشاعره الإنسانية النبيلة جرّاء شعبه المتضرر، وأشعل تفاعلاً شعبيًّا، وتأييدًا كبيرًا من أبناء الوطن والمقيمين على حد سواء. جاء أمره لأنه يحمل في طياته التصدّي بكل حزم، والضرب بيد من حديد للمقصّرين والمتخاذلين المتسببين في تلك الكارثة التي ألمّت بشعبه. إنها سابقة تاريخية سوف تُسجّل لخادم الحرمين الشريفين، وآمل أن تُتوّج بالتشهير عن المتسببين، وعدم التهاون معهم سواء كانوا مقاولين أو مسؤولين، ومحاكمتهم، ومصادرة الأموال التي جنوها جرّاء هذه الجريمة. إن ما حدث يُعدُّ درسًا وعِبرةً للجميع، فالمطلوب الحزم وبشدة في مثل هذه الأمور، خاصة فيما يتعلّق بمشاريع الإنشاء والتعمير، والبنية التحتية، والالتزام الدقيق بكل المواصفات والمقاييس الضرورية والآمنة، وعدم التلاعب والتهاون فيها، وذلك حفاظًا على سلامة المواطنين في حال تكرار مثل هذه السيول سواء في جدة أو في غيرها من مناطق المملكة. همسة: عندما ينخر سوس الفساد في عظام المجتمع من أجل كسب المادة، فإنه بذلك ينسف كافة القيم والأخلاق والمبادئ، ولا يهدم مستقبل أمة فحسب، بل أجيالاً تصبو دائمًا لغدٍ مشرق.