يحوي التاريخ البشري الكثير من الأحداث والوقائع والظواهر التي تستحق الوقوف عندها للتأمل والنظر والدراسة.. ومن هذه الظواهر التاريخية ما يمكن أن نسمّيه "بالشخصيات الجدلية" فعندما نقلب صفحات التاريخ نلتقي عبر ممراته، ومنعطفاته الكثيرة بهذه الشخصيات المثيرة للجدل! التي خالفت بما صنعت وأحدثت من سلوكيات، وممارسات الأنساق الثقافية والاجتماعية الطبيعية، الأمر الذي تفجّرت معه الكثير من الأسئلة، وانعكست من خلاله ردود فعل متباينة من الخلاف والاختلاف حولها. ولعل إشكالية الشخصيات الجدلية التي لا تنتهي هو استحواذها على مساحة كبيرة من الذاكرة التاريخية، إذ تتأرجح أقوالها وأفعالها عبر التاريخ ما بين الإدانة والإنكار الشديدين لدى الشريحة الكبرى من المجتمع الإنساني إلى التبرئة والإقرار لدى أقلية أخرى من ذلك المجتمع الأمر الذي يضع أكثر من علامة استفهام على موقف تلك الشريحة لمعرفة أسباب ذلك السلوك التبريري. ولعل المشكلة الحقيقية تبرز بشكل أوضح عندما تصبح تلك الشخصيات رموزاً تاريخية يُشار إليها بالبنان كما يُشار إليها أيضاً بأصابع الاتهام، الأمر الذي يربك قارئ التاريخ ويصيبه بالحيرة؛ وذلك بسبب صعوبة التقييم والحكم بشكل منهجي وموضوعي، وما ذاك إلاّ لأنها خلطت ما بين عمل صالح وآخر سيئ. وقبل الحديث عن الشخصية الجدلية التي يتناولها هذا المقال لابد من التذكير بأن هناك عددا من الأسباب التي تساهم بشكل أو بآخر في صنع وتشكيل بعض السمات لدى الشخصيات الجدلية، ولن يستطيع هذا المقال حصرها، ولكننا سنشير فقط لأهم سبب ألا وهو "العامل السياسي" الذي أستطاعت من خلاله تقلد المناصب المختلفة، ولعب الكثير من الأدوار السياسية، مما نتج عنه جملة من الأحداث، والمتغيرات على كافة الصعد وبمختلف المستويات. "وللعامل السياسي" ملامح ونوازع تلقي عادة بظلالها على الشخصية الجدلية من أبرزها البراجماتية؛ التي ترتكز أفكارها وفلسفتها على النفعية أو الذرائعية وإن كانت البراجماتية مذهب فكري وفلسفي في الأساس إلا أنه تم توظيفه سياسياً من قبل الأنظمة الديكتاتورية في أوروبا إبان العقد الثاني من القرن العشرين كموسوليني وحزب الفاشية في إيطاليا، وهتلر وحزب النازية في المانيا، وفرانكو وحزب الفلانجية في إسبانيا.. حيث أن أيديولوجيات تلك الأنظمة قامت على نزعة شوفينية من حيث التعصَّب للفكرة، والولاء الأعمى للنظام، وإقصاء الآخرين، وتهميش أفكارهم وآرائهم المخالفة. "وللعامل السياسي" تأثيراً كبيراً في إظهار الشخصيات الجدلية بمظهر الإنانية تارة وبحب البروز تارة أخرى حتى وإن كان ذلك الظهور على حساب المبادئ والقيم. وأخطر تلك النزعات على الإطلاق هي النزعة "الميكافيلية" إن جاز لي التعبير التي تُسوَّغ وتُشرَّعن استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول للأهداف والغايات. هذه النزعة "الميكافيلية" وغيرها من النزعات الأخرى التي تمارسها الشخصيات الجدلية عبر المناصب السياسية المختلفة هي المسؤولة في -تقديري الخاص- عن كل المآسي والتجاوزات، والمشاهد الحزينة التي تحدث للبشرية عبر التاريخ الإنساني. ولعل شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي أنموذجاً من نماذج تلك الشخصيات الجدلية.. فلقد كانت -ولا تزال- هذه الشخصية محل خلاف واختلاف بين المؤرخين عبر العصور التاريخية المختلفة سلباً وإيجاباً، مدحاً وقدحاً، فانقسمت الآراء حول هذه الشخصية الجدلية إلى ثلاثة أقسام: فريق محب ومادح حيث لا يرى فيها إلاّ الحسنات والإيجابيات، وفريق مبغض وقادح إذ لا يرى فيها إلاّ السيئات والسلبيات، وفريق ثالث وقف في المنتصف بين الفريقين حيث قيّم شخصية الحجاج باعتدال وموضوعية بعيداً عن الهوى، والميول العاطفية، فذهب يبرز مآثر وحسنات الحجاج دون تقديس وتعظيم وفي ذات الوقت لم يتردد في كشف أخطائه وعيوبه وسيئاته، وأيضاً بدون تدنيس وتحطيم، والفريق الثالث باعتقادي هو الفريق الأقرب للإنصاف وللحقيقة التاريخية، وللمنهج العلمي والموضوعي. وبالعودة للفريق الأول فريق المحبين والمادحين نجد أنهم يثنون على الحجاج ويعظّمون سيرته ويعتبرونه أحد أهم رواد الحزم والإصلاح، ويصفونه بالذكاء ورجاحة العقل والثقافة والبلاغة حتى قيل أنه لم يُلحن في جِدٌ ولا هزل.. كما يصفونه بالكرم والعطاء إلى حد القول بأنه لم يترك حين مات إلاّ ثلاثمائة درهم من مكافأته التي قيل أنه وصلت إلى نصف مليون درهم. ويبرز هذا الفريق مظاهر تدين الحجاج من خلال عفته عن المال الحرام ومنعه بيع الخمور، وتجنب المحارم، والإكثار من قراءة القرآن وتشجيع حفظته.. وأنه أول من أمر بتنقيط المصحف، ووضع علامات الإعراب على كلماته، ووحّد قراءته على مصحف عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في الأقاليم التي دخلت الإسلام حديثاً. ويعتبر هذا الفريق أن الحجاج أحد أهم الدعائم الرئيسية التي ثبتت أركان الدولة الأموية حيث وطّد الأمن وحارب الفساد المالي والإداري، وبني المدن وقام بإصلاحات إدارية كثيرة وحفظ العراق وخراسان والمشرق من الفتن، إضافة إلى حرصه على الجهاد ونشره للإسلام في بلاد السند والهند.. وغيرها الكثير من المآثر التي يرددها المادحون ولو اكتفينا بهذه الشهادة التاريخية من هذا الفريق لاعتبرنا الحجاج أحد أهم عظماء التاريخ. وأما الفريق الثاني فهو فريق الكارهين القادحين، إذ نجد أنهم يجمعون على اتهام الحجاج على قيامه بأفعال تتعارض مع أركان ومبادئ الإسلام العظيمة من حيث الظلم والتعدي وانتهاك حقوق المسلمين الشرعية والأخلاقية.. ومن ذلك ما قام به الحجاج عندما تولى السلطة في العراق حيث أعمل السيف في رقاب المسلمين ترهيباً وترويعاً حتى قيل أنه بلغ عدد قتلي الحجاج مائة وعشرون ألف قتيل إلى درجة أنه قيل عنه أنه كان يقتل "على الشُّبهة والظِنَّة" وأن كل ذلك كان من أجل أهداف سياسية فقط! ويشنع هذا الفريق على الحجاج أيضاً تعامله الفظ والغليظ مع أصحاب وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ كان عنده جرأة شديدة على الصحابة، وقد ظهرت تلك الجرأة في حصاره لابن الزبير في مكة، وضربه للكعبة بالمنجنيق، ثم استباحته بعد ذلك للمدينة المنورة ثلاثة أيام، واستخفافه بمن فيها من صحابة -رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد كان الحجاج يقوم بذلك دفاعاً عن سلطة وشرعية بني أمية إذ كان يعتقد بتكفير الخارج عن السلطة والخلافة الأموية، الأمر الذي برر له قتل أناس عظماء كعبدالله ابن الزبير، وسعيد ابن جبير وغيرهما من العلماء. ويستدل هذا الفريق على الحجاج بالكثير من الشهادات التاريخية لكبار التابعين والمؤرخين، والعلماء الذين أجمعوا على ظلمه وخُبثه، ونقضه لعُرى الإسلام. ولو اكتفينا بهذه السلبيات من هذه الشهادات التاريخية لهذا الفريق لاعتبرنا الحجاج أحد أعظم الطغاة في التاريخ البشري. ومن خلال هذين الموقفين المتناقضين من شخصية الحجاج حرياً بنا أن نتساءل عن الموقف الصحيح من هذه الشخصية الجدلية؟ حسناً! أعتقد أن الموقف الصحيح هو أن نقف موقفاً وسطاً بين الفريقين، فلا نحبهُ ولا نسبهُ كما قال المؤرخ ابن كثير، وأنه يتوجب علينا ذكر حسنات وإيجابيات هذه الشخصية ولكن بدون تقديس أو تعظيم، وفي ذات الوقت يجب علينا إبراز السلبيات والجوانب السيئة فيها وأيضا بدون تبخيس وتحقير.. ولعل أفضل ما يُستشهد به في هذا السياق هو الكلام النفيس الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم منهاج السنة النبوية عندما قال: "من سلك طريق الاعتدال، عظّم من يستحق التعظيم وأحبّه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويُثاب ويُعاقب، ويُحبّ من وجه ويُبغضُ من وجه". والآن وقد صلنا إلى السطر الأخير كما يقول التعبير الإنجليزي فقد أفضى الحجاج إلى ربه إذ لن ينفعه مدح مادح أو قدح قادح، ولكن يبقي السؤال المؤلم الذي يصفع وجه التاريخ حينما يأتي على سيرة الحجاج ألا وهو: هل تستحق شخصية مثل شخصية الحجاج التي ثبت عليها تاريخياً، بالأدلة، والبراهين، والشواهد المتواترة، ارتكابها للكثير من المظالم والفظائع، والأعمال المشينة من استباحة الدماء المعصومة واستباحة المقدسات، فضلاً عن التجاوزات الأخلاقية الأخرى؛ أقول: هل تستحق هذه الشخصية الدفاع عنها بأي شكل من الأشكال سواءً بالكتابة والتأليف، أو بالمدح والتلميع من خلال إبراز المحاسن والجوانب الإيجابية منها فقط؟ أو بالتماس الأعذار لها واختلاق التبريرات للأخطاء التي ارتكبتها في حق الإسلام والمسلمين؟ حقيقة الأمر أن من يدافعون عن الحجاج سواءً كانوا من القدماء أو المُحَدثِين، يقعون في مأزق شرعي، وأخلاقي، ومنهجي، فمن الناحية الشرعية لا يجوز الدفاع عن أي شخص وتبرئته حتى وإن كان رمزاً من رموز التاريخ على حساب المنهج الرباني الذي جاء به الإسلام، وأقره سيد الخلق -محمد صلى الله عليه وسلم- فمن الثوابت والمقاصد العظيمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وأقرتها السنة النبوية الكريمة هي حفظ الضرورات الخمس المتمثلة في الدين والنفس والعقل والنسب والمال وكل هذه الثوابت أو معظمها على الأقل قد انتهكها الحجاج كما تثبت الروايات التاريخية.. ولهذا لا يجب أن يتحول الدفاع عن الحجاج إلى تبرير لكل الوسائل التي استخدمها على حساب قدسية المبادئ الإسلامية الأصيلة.