تناولت الصحف انتشار فيروس كورونا المستجد في الدول جميعها دون تمييز، وتأثير ذلك على تغيير مفهوم العولمة وغيره من المفاهيم والمسلمات التي رأى كُتاب أنها لن تعود بالتأكيد كما كانت.. وذهب آخرون إلى أن هذه الأوقات العصيبة التي يمر بها العالم فرصة لخلق عالم جديد أكثر عولمة. فيروس كورونا أثبت سرعة انتشاره مستفيدًا من نظام العولمة الذي حول الكرة الأرضية إلى «قرية كونية» بحيث سهل انتقال الأشخاص، وهي الحرية التي سهلت بدورها انتشار الوباء من دون حاجة إلى الحصول على إذن أو تأشيرة، بدليل أن الوباء بدأ في منطقة محددة من الصين، ثم انتقل خلال أيام إلى باقي أنحاء العالم عابرًا للقارات. إن العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية كانت تخدم أنظمة رأسمالية دولية، ويتم توظيفها لخدمة مآرب ومشروعات تصب بشكل خاص في مصلحتها على حساب الفقراء من دول وشعوب.. ولكن مع فيروس كورونا انتفت أي فروقات طبقية وساد ما يمكن تسميته «عولمة المرض» بحيث أصبح الفقير والغني ليسا بمنأى عن هذا الوباء.. ولم تكن الأنظمة ومن يمثلها في هرمية السلطة بعيدة عن مخاطره.. وبذلك أصبح الوباء عابرًا للطبقات الاجتماعية بكل متدرجاتها وتصنيفاتها.. وما نشهده اليوم من وباء عالمي وكأنه حرب عالمية ثالثة تختلف عن الحروب التقليدية، هو وباء اجتاح العالم خلال أيام وأسابيع قليلة، مما استدعى نزول الجيش في بعض دول العالم لمواجهته ولكن من دون جدوى.. ليس وباء كوفيد 19 أول وباء يضرب الحياة في العالم الإنساني وهو قطعًا لن يكون آخر وباء يفتك بالبشر.. فلقد مر على التاريخ الإنساني المكتوب حين من الزمن احتلت فيها الأوبئة مساحة من معاناة الجنس البشري، فاجتاحت مدنًا وبلادًا عدة، وأزهقت ملايين الأرواح، وخرب بآثارها الفادحة الكثير من فصول العمران البشري.. ضرب الطاعون الأنطوني الامبراطورية الرومانية في القرن الثاني للميلاد ليأتي على حياة خمسة من الملايين من البشر؛ وضرب طاعون جاستينيان الامبراطورية البيزنطية ليودِيَ بحياة ثلاثين مليونًا؛ ومثله ذهب الطاعون الدملي بحياة مائتي مليون في القرن الرابع عشر.. ومثله ذهب الطاعون الصيني بحياة اثنى عشر مليونًا في أواسط القرن التاسع عشر؛ فكانت اجتياحات وباء الطاعون.. وقد استمرت حتى القرن العشرين أشد موجات الأوبئة فتكًا بحياة الإنسان على ما يفيدنا التدوين التاريخي للأوبئة وعولمة الأمراض عبر التاريخ. كل الذي جرى واختلفت به جائحة كورونا عن شقيقاتها من الجوائح بالأمس أن عولمةً لفيروس كوڤيد 19 وقَعت فأخذته إلى أصقاع الأرض كافّة من مهده في أقصى آسيا.. هاهي بائقةٌ أخرى من بوائق العولمة تصيب العالم، ولكنها أشد بوائق العولمة فتكًا؛ ففيها يستوي فقراء العالم وأغنياؤه، جياعة ومترفوه، جهلته والمتعلمون، العاجزون عن الإنفاق على العلاج والقادرون عليه.. أما القادم فأمره عند الله سبحانه وتعالى.