العرب في الجاهلية، لم يكونوا أهل علم وفلسفة فقد كان الجهل متفشياً بينهم -خصوصاً في الأقطار البدوية- لأنه كما ذكر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث في مقدمته، (الجزء الخامس): «الكتابة والعلم إنما يكثران حيث يكثر العمران». وقال، أيضاً: «إن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وهؤلاء تعلموا من الحِمْيَريين». روى الرحالة أحمد بن يحيى البلاذري، في كتابه «فتوح البلدان»: أن الإسلام دخل وفي قريش فقط سبعة عشر رجلاً يكتب، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين وقليل من نسائهم كن يكتبن، كحفصة وأم كلثوم من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أم المؤمنين عائشة تقرأ المصحف وكذلك أم سلمة رضي الله عنهن. وسواء صح هذا أو لم يصح، فالحجازيون والمضريون قبل الإسلام كانوا أشد بداوةً وأكثر أميةً، فلما جاء الإسلام أصبح لمكةوالمدينة شأنٌ علمي كبير، فأما مكة فلأنها كانت منبع الإسلام، وبها كانت نشأة النبي صلى الله عليه وسلم وبها كانت الأحداث الأولى من دعوة قريش إلى الإسلام وبداية التشريع، وأما المدينة فمُهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبها كان أكثر التشريع الإسلامي وكانت منبعاً لأكثر الاحداث التاريخية في صدر الإسلام. في مكةالمكرمة قبل الهجرة، استكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضاً من هؤلاء الذين يعرفون الكتابة ما ينزل من القرآن، فكان منهم أُبيُّ بن كعب وزيد بن ثابت، وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد ثم كتب له عثمان بن عفان رضي الله عنهم. ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خلف فيها معاذ بن جبل، وكان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام ومن أقرئهم للقرآن يُفقِّه أهلها ويعلمهم الحلال والحرام ويقرئهم القرآن. وكذلك علم بمكة الصحابي الجليل وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس بن عبدالمطلب -حبر الأمة وترجمان القرآن- في أُخريات أيامه، فكان يجلس في البيت الحرام، يعلم التفسير والحديث والفقه والأدب، وإليه وأصحابه يرجع الفضل فيما كان لمدرسة مكةالمكرمة من سمعةٍ علميةٍ. وقد تعلم في هذه المدرسة الكثير من التابعين وتابعي التابعين، كمجاهد بن جبر وطاووس بن كيسان الذي أدرك كثيراً من الصحابة وأخذ عنهم ثم انقطع إلى عبدالله بن عباس وكان من خاصة تلاميذه، وأصبح من فقهاء مكة ومفتيها. استمرت هذه المدرسة قائمة تتلقى العلم فيها طبقة عن طبقة. وسوف يطول بنا القول لو عددنا من تتلمذ على يد هؤلاء العلماء الافاضل في هذه المدرسة المكية الأولى، غير أننا نذكر هنا أنه من أشهر من تعلم فيها سفيان بن عتيبة ومسلم بن خالد الزنجي وعليهما أخذ الإمام محمد بن إدريس الشافعي علمه وفقهه.