للمرة الأولى، صنَّفت المُنظمة العالمية للصحة «الاحتراق الوظيفي» كظاهرة مهنية ومُتلازمة مرَضية تنتج عن فرْط الإعياء والإرهاق والتوتر الوظيفي بصورةٍ تفوق قدرة الموظّف على التعامل الصحّي معها، وقد تمّ إضافة هذا المُصطلح كعامل خطرٍ بيئي إلى النسخة الأخيرة من التصنيف العالمي للأمراض. ويوصَف «الاحتراق الوظيفي» حالياً بالوباء المهني المتفشّي، الذي يتسبب في خسائر اقتصادية كبيرة، ويتميّز بدرجةٍ عالية من الإنهاك البدني والاستنزاف الذهني وأعراض نهائية منها: الأرق المزمن، والتأخّر في إنهاء أعمال وظيفية لم تكن تشكّل عبئاً، وتكرّر التأخّر والغياب عن الدوام، وكثرة النسيان وقلّة التركيز، وتعكّر المزاج ونوبات الغضب، ومن ثمّ الدُّخول في مرحلة الاكتئاب، وفقدان الشعور بالاستمتاع بمباهج الحياة، وطُغيان التشاؤم وفقدان الثقة واللجوء للعُزلة المَرضية، فضلاً عن أعراض عُضوية منها الصّداع وخفقان القلب، وآلام الصدر وسوء الشهية للطعام واضطرابات الجهاز الهضمي ونقصان الوزن، وتكرّر الإصابة بنزلات البرد أو الانفلونزا نتيجة ضعف نظام المناعة. أما بيئة العمل التي تتسبب في «الاحتراق الوظيفي» لكثير من الموظفين والمهنيين، فتُوصَف «بالبيئة السامّة»، حيث تنتشر فيها المكائد والصّراعات الداخلية بين كثير من الموظفين والعاملين، وبخاصة من هم في مناصب مُتقدّمة، بسبب تغلّب الطموحات الشخصية والمكاسب الفردية، على حساب الرؤية والرسالة «المزعومة» للمنظومة الإدارية، فتصبح البيئة مُدمِّرةً للكفاءات، طاردةً للنجاح والإبداع، يشوبُ موظفيها قلةُ الاحترام والاستخفافُ ببعضهم، ويطغى عليها التحزّبات والتكالُب على مكاسب آنية قصيرةِ الأجل على حساب الاستراتيجية طويلة الأجل، وانتشار التسلّط الوظيفي والمحسوبية والتمييز على أُسس الولاءات الشخصية، في جوّ من المُشاحنات و»البلطجة» والتنمّر والإساءات اللفظية والسُّلوكية، تتغذى على مشاعرِ غياب العدالة والتقدير والدعم، وشكوكٍ حول النزاهة وأخلاقيات العمل، بمباركة قادةٍ بشخصيات ضعيفة مهزوزة، فقدوا أهمّ مقوّمات عملهم من كفاءة ونزاهة، وانشغلوا بمصالحهم الخاصة عن أماناتهم، في حين كان من واجبهم من خلال الإدارات المعْنية، تمكينُ الموظفين وإشراكهم في القرارات التي تختصُّ بأعمالهم، والاهتمامُ بمُشكلاتهم، وتقدير إنجازاتهم وعدم تأخير مُستحقاتهم، وبثّ روح التحدّي والتنافس الشريف بينهم، وتشجيع الالتزام والتفاني، بأنظمة وقوانين يتمُّ مراجعتها دورياً لضمان العدالة والنزاهة، ولكن لعلّه صحيحٌ ما يقولُه المثل: «فاقدُ الشيء لا يُعطيه»!.