تشير سجلات المدرسة الناصرية (الأميرية سابقاً) بالمدينة المنورة، والتي تأسست في العام 1900م، إلى أن مادة (الأخلاق والتربية الوطنية) كانت إحدى مناهجها الرئيسية في ذلك الوقت!.. وقد اطلعتُ شخصياً على نسخة من المقرر الذي كان يُعلّم التلاميذ حقوقهم وواجباتهم، مع مجموعة كبيرة من الأخلاقيات التي كانت تُدرَّس بطريقةٍ تُناسب ذلك العصر، رغم قناعتي بعدم حاجة أهل ذلك الزمان لتلك النصائح، كون أغلبهم كان يتمتع بأخلاقيات تفوق ما في المقرر بكثير. اليوم ومع تعقيدات الحياة، وتعدُّد مصادر التعلُّم التي تجاوزت المدرسة والمعلم، وصولاً لليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، إلا أننا للأسف نفتقد لمثل هذا المنهج المهم، فالوزارة التي تخلَّت عن كلمة التربية في مسمَّاها، يبدو أنها تخلَّت كذلك عن دورها التربوي في المجتمع، والمؤسف أن هذا يحدث في وقتٍ أصبحت فيه (تغريدة) واحدة من (مهووس) أو (شاذ) تستطيع أن تجوب الآفاق؛ وتُسمِّم أفكار مئات الآلاف من الشباب، كما يستطيع حوار تلفزيوني أو مشهد (سنابي) واحد؛ نسف جهود سنوات من العمل التعليمي الشاق!. إن ما نُشاهده اليوم من انفصامٍ كبير في المجتمع بين العبادات والسلوكيات دليل لا يقبل الشك على فشل كثير من مدارسنا في غرس القيم الإسلامية والإنسانية الأساسية، كالصدق والأمانة والنزاهة والوفاء في معظم الأجيال السابقة.. وهنا لابد من التأكيد على أننا لا نطعن في مناهج التربية الإسلامية بقدر ما نتحفَّظ على الطريقة التي يتم بها تدريس هذه المواد في زمنٍ تساقط القدوات الهشة، زمن طغيان الماديات، زمن الرأسمالية المتوحشة التي أصبح كل شيء فيها يُشتَرَى بالمال!. في مثل هذه الأجواء الملوثة، يصبح من واجب وزارة التعليم إعادة استزراع الكثير من القِيَم التي نفتقدها، من خلال تدريس مادة (الأخلاق) التي أصبحت علمًا عالمياً مستقلاً، له أصوله وفنونه وتطبيقاته، التي لا تقف عند الجوانب النظرية، بل تتجاوزها إلى الممارسة العملية التي تُرسِّخ القيمة في النفوس.. لذا فإن أفضل طرق تدريس الأخلاق أن تكون عن طريق الأنشطة والممارسة، بعيداً عن التلقين والاستظهار. إن تضمين الأخلاق في تعليمنا، يتطلَّب تفعيلاً للمراصد الاجتماعية، ودراسات أعمق للظواهر والسلوكيات بعيداً عن اتهام مكوِّنات بعينها أو استقصاد وسائل بذاتها، كالقنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي.. كما أن المنهج المطلوب يجب أن يجعل من المنظومة الأخلاقية سلوكاً يمارس على أرض الواقع، يستدعى في المواقف عبر تطبيقات وأدوات تناسب هذا الجيل بخيالهِ الواسع وتعلُّقه بالمحتوى البصري والتفاعلي.. مع التأكيد على أهمية أن يتعايش الطلاب مع مواقف عملية داخل المدرسة، من شأنها أن تغرس فيهم القِيَم الحميدة. إن عودة الأخلاقيات والقِيَم العليا إلى النشء، كفيلٌ بصناعة مجتمع تتسق أقواله مع أفعاله، عندها لن ترى أولئك الذين يتباكون في المساجد وقت الصلوات، ويرتكبون كل المُوبقات بمجرد خروجهم منها.