أتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما وَقَد نَبَّهَ النَيروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّهُ يَبُثُّ حَديثاً كانَ أَمسِ مُكَتَّما وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسهُ عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمنَما أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَةً وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ مُحرَما وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتّى حَسِبتَهُ يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّةِ نُعَّما هذه اللَّوحة الشعريَّة في وصف دخول فصل الربيع (النيروز)، كما رسمها بالكلمات البُحتري؛ أبوعُبادة الوليد بن عبيد التنُّوخي الطائي (205- 284 هجرية)، من شعراء العهد العباسي، كانت من بين نصوص الشعر العربي التي درسناها في المرحلة المتوسِّطة. ولأنَّ مدرِّس اللُّغة العربيَّة كان من المعجبين بالبحتري، فقد كان يلقي علينا أبيات القصيدة بصوتٍ مسرحيٍّ، تنقلنا في الخيال من مقاعدنا في الفصل إلى الطبيعة الغنَّاء. في سرد سيرة حياة البحتري، ما أزال أتذكَّر أنَّ المعلِّم كان عندما يأتي على مكان ولادته؛ مدينة منبج، في الشمال الشرقي من مدينة حلب، يتَّسم حديثه بالجدِّية، وهو يتَّجه إلى خريطة المشرق العربي المعلَّقة على جدار الفصل، ليشير بيده على موقع منبج عليها. وبصوتٍ تشوبه نبرة حزن، يقول: إنَّ هذه المنطقة المتوسِّطة للبلدان التي رسم حدودها (سايكس وبيكو؛ وزيرا خارجيَّة بريطانيا العظمى وفرنسا)، هي تركيا وسورية والعراق؛ المنطقة التي عرف سكَّانها منذ عشرة آلاف سنة سنبلة القمح. فكانت حبوبها (البرُّ والحنطة) مصدر غذائهم الرئيس. وقد نقلوها إلى البلدان المجاورة لهم. ومن تلك المجاورة، عمَّت أرجاء المعمورة كافَّة. وأصبحت ومشتقَّاتها المكِّون الرئيس لطعام شعوب العالم. ومع هذا العطاء من منبت القمح الأساس؛ منبج وما حولها في بلاد الشام الكبرى؛ (سورية ولبنان وفلسطين والأردن)، وبلاد الرافدين، تعاني ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وتنكَّر العالم من شرقه إلى غربه لعطاء أجداد أبناء هذه المنطقة للحضارة الإنسانيَّة. فبالإضافة إلى تعريفهم العالم بالقمح ومشتقاته، علَّموه القراءة والكتابة والحساب. ومع أن وسائل الإعلام، تنقل ما يتعرَّض له سكَّان منطقة منبج، ومَن بالقرب منها وحولها في سورية والعراق ولبنان، وكذلك في اليمن وليبيا، من قهرٍ وقتل، وتدمير وتهجير بالعنف، وبتخطيط دول عظمى، وتنفيذ ميليشيات مأجورة تأتمر بأمر ضعاف النفوس ممن ماتت ضمائرهم، واستهوتم السيطرة على البلاد والعباد، فإنَّ الدم لا يزال يسيل بغزارة، متزامنًا مع هدم المدن والقرى متواصلًا برًّا وجوًّا فوق رؤوس سكَّانها بشراسة. ويرافقه التهجير المتواصل بطرق شرعيَّة وغير شرعيَّة، تهدِّد حياة المشرَّدين! ولا من قوَّة إقليميَّة أو دوليَّة توقف العدوان، وتضع نهاية لهذا القتل والدمار. تُرَى: هل يكتفي المسلمون بدعاء بعض الخطباء على المنابر: اللهمَّ عليك بهم، اللهمَّ شتِّت شملهم، اللهمَّ يتِّم أطفالهم، ورمِّل نساءهم، اللهمَّ جمِّد الدم فى عروقهم! متناسين قوله جلَّ وعلا: «إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكَمْ...» و»قُلِ اعْمَلُوا..».