في مدونته الإلكترونية يبسط لنا المفكرُ الباحثُ في الفكر الإسلامي الدكتور زكي الميلاد رؤيتَه بقوله: «لماذا يكره الإنسان إنسانًا مثله، والخَلْقُ كلُّهم عيال الله، خلَقهم من نفس واحدة، وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا، لا ليتنازعوا أو يتكارهوا، وأكرمهم عند الله بالتقوى؟». من هذه الرؤية الإنسانية المتسامحة ينطلق الميلاد متأملاً ومشتغلاً على قضايا الفكر الإسلامي ومسائل التجديد في إطار المرجعية الإسلامية، وكان من مخرجات ذاك الاشتغال كتابه الجديد الذي أصدرته «مجلة الفيصل» متزامنًا مع عددها الأخير تحت عنوان (نقد إقبال.. كيف نقرأ إقبالاً اليوم؟) وفيه يبرر الميلاد تطرقه لنقد الفيلسوف الإسلامي الباكستاني الدكتور (محمد إقبال) بأنه لا يقصد بذلك «توقف الحاجة لإقبال والاستغناء عنه وجعله من الماضي المنسي المتروك، وإنما لاستعادة الحاجة لإقبال.. لإحياء إقبال من جديد ليكون حاضرًا ومؤثرًا في حياتنا الفكرية والدينية التي أصابها التراجع والجمود». حديث الميلاد عن الفيلسوف إقبال جاء تحت دافع الإعجاب بفكره وفلسفته النابعَين من القرآن الكريم. فلسفة إقبال هذه لم يشهد بها العرب والمسلمون وإنما جاءت الشهادة - كما يذكر الميلاد- من المفكرِين الألمان أنفسهم، أما شهادة الميلاد لإقبال فقد وصلت لدرجة أن إقبالاً لا يَقلُّ عنده «في فلسفته وأهميته عن فلاسفة ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وفلاسفة أوروبا عمومًا». لعل ما جعل الميلاد ينزع لفلسفة إقبال هو أن إقبالاً لم يأتِ للفلسفة تابعًا أو مُردِّدًا ببغائيًّا لآراء سابقيه من الفلاسفة الغربيين، مع أن بإمكانه أن «يصبح مفكرًا متغربًا، وتلميذًا نجيبًا للثقافة الأوروبية كما حصل ويحصل مع كثيرين في العالم العربي والإسلامي»، ثم إن هذه الاستقلالية التي امتاز بها إقبال لم يجد فيها «ما يخدش في مكانته الأكاديمية عند الأوروبيين، أو في منزلته العلمية في نظرهم». بل وصل الأمر بإقبال إلى ما هو أبعد من ذلك فهو مع «تعمقه في دراسة العلوم الفلسفية (العقلية) احتفظ بنزعته المعنوية (الروحية)». الكتاب تطرق لنقد بعض المفكرِين العرب والمسلمِين لمنهج إقبال، وتطرق لنقاشات إقبال للآراء الفلسفية لبعض فلاسفة أوروبا ك (ديكارت وكانط ونيتشه)، وخُتم بالسيرة الفكرية للميلاد مع إقبال. لستُ في مقام الإحاطة بالكتاب، لكنني أتساءل عن قامة فلسفية مجدِّدة بحجم إقبال حينما لم تحظَ بالأضواء والدراسة والتحليل لمنهجها الفكري والفلسفي، اللهم إلا عند قلة من المفكرِين كالميلاد، وعن قامة أخرى فكرية مجدِّدة متسامحة بحجم الميلاد.. هل يعود ذلك لكونهما جَعَلا المنهج الإسلامي منطلَقَهما الفكريَّ فأضحى خطيئة لا تُغتفَر؟ وهل كان ينبغي على إقبال ألا ينطلق من القرآن كي نفتتن بفلسفته وفكره؟ وهل كان ينبغي على الميلاد ألا يبرح دائرته الضيقة كي نقتنع بمشروعه الفكري التجديدي؟ ألا يستحق إقبال بفلسفته الإسلامية -المتماهية مع تطورات المعرفة الإنسانية- المشهود لها أوروبيًّا، وفكره التنويري المتوازن أن تُكثف حوله الدراسات، ويُستفاد من آرائه التجديدية، ويصبح من أعمدة الفلسفة الإسلامية؟ ألا يستحق الميلاد بفكره المعتدل المتسامح ونظرته المتسامية على الدوائر الضيقة أن يكون مثالاً للمفكر المجدِّد بوعيٍ وتوازن؟ هل مطلوب منا أن ننتظر كل هذه العقود حتى يأتي من يعيد قراءة الإرث الفكري والفلسفي لإقبال؟ وهل سننتظر عقودًا مماثلة حتى يُلتَفت للميلاد ومشروعه الفكري؟. والسؤال الأطم: لماذا لا نحفل -في العادة- إلا بالفكر المتطرف أقصى اليمين وأقصى الشمال؟!.