كنت وما زلت من الذين يهتمون بأدب الرحلات؛ كون هذا النوع من الأدب يهدف إلى معرفة مشاعر الأمم الأخرى واختياراتها، ولعلي أبقى على هذا التوجه الجذَّاب، وأشير إلى أجمل ما قرأت في هذا الاتجاه الشعري، قصيدة للشاعر مجد الدين أبي عبدالله بن رشيد البغدادي الذي كان شاعرًا مجيدًا من شعراء بغداد وفقيها شافعيًّا وواعظا مشهورًا وهو صاحب القصائد (الوترية في مدح خير البرية). في عام 616ه حج بيت الله الحرام ونظم قصيدة ذكرها الإمام تقي الدين الفاسي في كتابه (شفاء المرام بأخبار البلد الحرام) بلغ عدد أبيات القصيدة 150 بيتًا قافيتها الهاء المضمومة، وتعرف بالقصيدة (الذهبية في الحجة المكية والزورة المحمدية) فالقصيدة تتحدث عن رحلة الحج من مبتدئها إلى انتهائها بزيارة المسجد النبوي الشريف، والسلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. ومن أبياتها: نَحجُلِبيتٍ حَجهُ الرسلُ قبلنا لنشهَد نفعًا في الكتابِ وعدناهُ دعانَا إليه اللهُ عندَ بنائهِ فقلنا له لبيكَ داعٍ أجبناهُ فلا حَج إلا أن يكونَ بأرضهِ وقوفٌ وهذا في الصحاحِ رويناهُ إليهفؤادُ المرءِ يشعُر بالهنا ولولاهُ ما كَان الحجازَ سلكناه يطوفُبه الجانِي فيغفرُ ذنبهُ ويسقطُ عنهُ إثمهُ وخطاياهُ وطفنا به سبعًا رملنا ثلاثةً وأربعةً مشيًا كما قد أمرناهُ كذلك طافَ الهاشميُ محمدُ طوافَ قدومٍ مثلما طافَ طفناهُ ويوممنى سرنا الى الجبلِ الذي من البعدِ حيانَا كما قد حييناهُ وبعدزوالِ الشمسِ كانَ وقوفُناَ الى الليلِ نبكيِ والدعاءُ أطلناهُ علىعرفاتٍ قد وقفنا بموقفٍ به الذنبُ مغفورُ وفيهِ محوناه وقدأقبلَ الباريْ علينا بوجههِ وقال أبشروا فالعفوُ فيكم نشرناه فظلحجيجُ اللهِ لليلِ واقفًا فقيلَ انفروا فالكلُ منكم قبلناهُ أفيضواوأنتم حامدونَ إلهَكُم إلى مشعرٍ جاء الكتابُ بذكراه ونحو منىً ملنا بها كان عِيدُنا ونِلنا بها ما القلبُ كانَ تمناهُ وفيهارمينا للعقاب جمَارنا ولا جُرْمَ إلا مع جمارٍ رميناه وردتإلى البيتِ الحَرَامِ وفُودُنا رجعنا له كالطير حَن لمأواه ومنبعد ما طفنا طَوافَ ودَاعِنا رحلنا إلى بلدِ الحبيبِ ومغناه وصلناإليه واتصلنا بقربه فللهِ ما أحلىَ وصولًا وصلناه وقمناوسلمنَا عليهِ وإنه ليسمعنا من غير شكٍ شككناه وملنالتسليمِ الإمامينِ بعده فإنهما حقًا هناك ضجيعاه وقفناتجاه المصطفى لوداعهِ فلا دمعَ إلا للوداعِ صببناه فياربنا ارزقنا لمغناه عودة فإن زمانًا لا نراه كرهناه إنها أصوات شعرية تفيض عذوبة ورقة وتتفاعل معها النفس بكل أحاسيسها ووجدانها، لتعيش شرف المكان وشرف الزمان، حيث المشاعر المقدسة والأيام المعدودات، إنها تصوير جميل يجمع بين الإمتاع والإقناع لمناسك الحج وشعائره المعظمة في أماكن تفيض بالقدسية والجلال.