وجدت في اليوم العالمي للغة العربية، الذي أقرته منظمة اليونسكو في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وجدت فيه مدخلا للحديث عن رحلة الضاد الطويلة الماتعة، فتاريخ الفصحى موغل في جذور الزمن، يضرب بأطنابه في امتداد جغرافي لا حدود له، وذلك بفضل الاتِّساع المكاني الذي رحلت إليه الفصحى رحلتها الطَّويلة عبر قرونٍ عديدةٍ من الزَّمان، ومعلوم سلفًا أن اللُّغة العربيَّة كانت قبل بزوغ فجر الإسلام محصورةً في شِبْهِ جزيرة العرب، ولم يتَّسع نطاقها إلَّا مع ظهور الإسلام، فلما انتشر الدِّين الحنيف في مختلف الأرجاء والبلدان انتشرت معه، وذلك لأنَّها لغة القرآن الكريم، ولغة سيِّد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وتعلُّمها وفهمها من الدِّين، فأصبح من الضَّرورة الحرص على تعلُّمها لمعرفة منهج التَّشريع الإسلامي. وقد حرص المسلمون الأولون على نشرها، وجعلوها لغةَ الدِّين والدَّولة، فانتشرت بطبيعة الحال في البلاد التي دخلها الإسلام، وأخذت في الانتشار إلى أن شملت مختلف الأقطار شرقًا وغربًا، بل أخذت تُغالب لغات تلك البلدان حتَّى غلبتها، ونَحَتْ طريقها الجديد في المراسلات وتعليم الدِّين الجديد، بل وفي المعاملات الدِّينيَّة غدت منهجًا متَّبعًا في كلِّ العالم الإسلامي، فصاروا لا يستخدمون في الإنشاء والتَّأليف وتدوين المدوَّنات غيرَها، بل لقد أقبل العلماء من غير العرب عليها بشكل لا نظير له، فبرعوا فيها، وأجادوا حتَّى فاق كثير منهم العربَ أنفسهم، ولا غرابة في ذلك فقد كانت وحدة الدِّين تستدعي اللِّسان، ومن هذا المنطلق أصبحت العربيَّة هي لغة المسلمين في كلِّ أرجاء الأرض، يجتهدون في تعلُّمها، ومعرفة مفرداتها، وأساليبها، وبلاغتها، حتى غدت لغة العلم والدِّين، فلا يبرز في علومها من لم يحط بجوانبها، ولا يفهم الكتاب العظيم والسُّنَّة النَّبويَّة المطهرة، من لم يُحكم بيانها، ويقف على دلالاتها، وبلاغتها. وشهد التَّأليف في العلوم الإسلاميَّة والعربيَّة تقدُّمًا في هذا المجال، وانطلق العلماء من مختلف الأقطار الإسلاميَّة يصنِّفون المصنَّفات بدافع عظيم، وهو خدمة هذا الدِّين لينتشر في الآفاق، وتنتشر معه لغة القرآن الكريم، وتكتسب مكانةً وقداسةً لا تُضاهيها فيها لغة من اللُّغات الأخرى. وفي هذا الاتجاه اكتسبت الفصحى خصائص وسمات لا تتوافر في غيرها، وهذا كلُّه بفضل هذا الدِّين الحنيف، الذي لولاه ما تحقَّق لها هذا الذِّيوع والانتشار، إذ نالت اللُّغة الخالدة أعظم شرف وأعلى مكانة حين اختارها الله تعالى لتكون وعاءً لكتابه الخالد، ولتتربع على عرش الألسنة واللُّغات، وتلك مفخرة حظيت بها العربيَّة دون غيرها من سائر اللُّغات، وبقيت معها مدى الأزمان صفة متلازمةً راسخة. يقول د. عبدالوهاب عزَّام: »العربيَّة لغةٌ كاملةٌ محبَّبةٌ عجيبةٌ، تكاد تصوِّر ألفاظها مشاهدَ الطَّبيعة، وتُمثِّل كلماتُها خطرات النُّفوس، وتكاد تنجلي معانيها أجراس الألفاظ، كأنما كلماتها خطوات الضَّمير، ونبضات القلوب، ونبرات الحياة». ومع نضوج الدَّرس اللُّغوي برزت ملامح في درجةٍ عاليةٍ من العمق، تُفصح عن جماليَّات اللُّغة عند اللُّغوييِّن العرب، وبعض المستشرقين، يقول المستشرق «كوتهيل»: «قلَّ منا نحن الغربييِّن مَنْ يُقَدِّرُ اللُّغة العربيَّة حقَّ قَدْرِها، من حيث أهميتها وغناها، فهي بفضل تاريخ الأقوام التي نطقت بها، وبداعي انتشارها في أقاليم كثيرة، واحتكاكها بمدنيَّات مختلفة فقد نمت إلى أن أصبحت لغةً مدنيَّةً بأسرها، بعد أن كانت لغةً قبليَّةً، لقد كان للعربيَّة ماضٍ مجيد، وفي تقديري سيكون لها مستقبل مشرق». والمقولات التي تقال في حقِّ الفصحى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، إذ يكفي أنَّه ليس هناك من لغةٍ تحمل من الغنى ما تحمله اللُّغة الفصحى من سعةٍ وآفاقٍ رحبة، وهذا عنصرٌ من عناصر عالميَّتها، ومقدرتها على التَّكيُّف وفق مقتضيات العصر، وهي سمات اختُصَّت بها.