المصائب التي تصيب الإنسان في نفسه، أو في أسرته، أو في مجتمعه ليست شراً محضاً، يوجب الجزع، وإنما هي محك للإيمان، وابتلاء في الصبر، وحسن التحمل,, اذ بها تنقى الأبدان، وتطهر النفوس، ولذا فقد جعل لها الإسلام علاجاً، وبيّن ثواب الصبر عليها، لأنها ابتلاء واختبار يظهر معه، قوة الجوهر، وطيب المعدن. وقد أبان الله في كتابه طريقة في التسلية، تريح القلوب، وتهدئ ثائرة النفس، وذلك بالصبر والاسترجاع، وقرن ذلك بالجزاء الأوفى من الله، والثواب الذي يرفع الله به درجة الصابر المحتسب، وهو وعد من الله سينجزه سبحانه، كما قال سبحانه: وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون البقرة 155 157 . ولا يوجد شخص في هذه الدنيا، مهما كان، وبأي موقع حل، لم تصبه مصيبة، من مصائب الدنيا العديدة، أو لم يتجرع ألمها، ويشعر بثقل وقوعها عليه، مهما كان نوعها: صغيرة أم كبيرة، في النفس أو في الممتلكات، ولذا سمى بعضهم الدنيا بدار الاكدار، ومرتع المصائب,, ولكنها دار الابتلاء، ومحك الايمان والصبر. ولكن وقع المصيبة على المؤمن أخف ألماً، من وقعها على غيره، لأن إيمانه، وقوة عقيدته، وحسن توكله على ربه مما يخفف هذا الوقع، يقول القرطبي في المصيبة: هي كل ما يؤذي المؤمن، ويصيبه، وقد جعل الله عز وجل، كلمات الاسترجاع، وهي قول المصاب: إنا لله وإنا إليه راجعون ملجأ وملاذاً لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين من الشيطان، لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيّج ما سكن، ويظهر ما كمن لأنه اذا لجأ لهذه الكلمات، الجامعات لمعاني الخير والبركة، فإن قوله: إنا لله اقرار بالعبودية، والملك واعتراف العبدلله، بما أصابه منه، فالملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله: إنا إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا، ثم يبعثنا، فله الحكم في الأولى، وله المرجع في الأخرى,, وفيه كذلك رجاء من عند الله بالثواب. ومن بركة هذا الاسترجاع العاجلة، بالاضافة إلى ما ذكر، ما ورد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله خيراً منها. فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أني قلتها,, فأخلف الله علي برسول الله صلى الله عليه وسلم تفسير القرطبي . والمصيبة التي تحل بالإنسان، تختلف بحسب قدرة الإنسان على التحمل، وبحسب ما وقر في نفسه من علاج، مستمد من شريعة الإسلام,, تخفف عن الكاهل، ما ناء به من ثقل، فهي خير للإنسان إذا تحملها بصبر، وأدرك انها جاءته ليمتحن الله إيمانه وتحمله، فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مصيبة تصيب المؤمن، إلا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها رواه البخاري ومسلم. وحتى تكون المصيبة نافعة، ودافعة الإنسان إلى أن يراجع نفسه، ويحاسبها على أعمالها، ما ورد فيها من أمور، تجعل من يتابعها، يود أن تزداد المصيبة عنده، لكي يزداد من الصبر، والإكثار والدعاء لله فتخف المصيبة عنده، ويشعر بلذة المناجاة، وطمع الدعاء,, ثم فيما أعده الله للصابرين الممتثلين, ولذا فإن مما يتسلى به أهل المصائب: أن يعلم ان المصائب والشدائد، تمنع من الفخر والخيلاء، والتكبر والتجبر، حيث ألف العز بن عبدالسلام في فوائد الابتلاء كلاماً حسناً، جاء كثير منه في كتاب محاسن التأويل للقاسمي. وان يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه، فإنما هي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره والإيمان بالقدر خيره وشره، وانه من الله تعالى، ركن من أركان الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعليه أن يجعل مكان الانين والشكوى إلى الخلق، ذكر الله تعالى، وحمده على أن خفّف عنه المصيبة بما هو أعظم، وأن المصيبة لم تكن في الدين، وان يوجه شكواه إلى الله سبحانه، فإنه هو الذي يكشف الضر، ويخفف ألم المصيبة، وان الله هو الرحمن الرحيم بعباده، فلم يرد اهلاكهم بهذه المصيبة، وانما يحب منهم التضرع إليه، يقول سبحانه: أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النمل 62 يروى لابن القيم قوله عندما رأى شخصاً يشكو ما ألمَّ به من مصيبة إلى الخلق: يا هذا أتشكو من يرحم على من لا يرحم، ومن يملك الأمر، ويزيل الضر، على من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ما زدت على أن شكوت من يرحمك، على من لا يرحمك. ومما تسلو به النفس عن المصيبة، ان يتذكر هذا الحديث، عندما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس، أشد بلاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وان كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، ما عليه خطيئة رواه الترمذي في باب ما جاء في الصبر على البلاء. وان يدرك صاحب المصيبة، ان سلفنا الصالح، كانوا يتمنون المصيبة تحل بهم، سواء في الولد بوفاته أو بأحد المقربين إليه، أو مصيبة تحل بالمال، لرغبتهم في الأجر، فقد روى سعيد بن منصور أن ابن عباس رضي الله عنهما، نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ راحلته، ثم صلى ركعتين، فأطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته، وهو يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين البقرة 45 . واذا عرف المصاب بالمصيبة: ان الله قد جعل المصيبة دافعاً لتقوية الإيمان، وأمر سبحانه بالالتجاء إليه: دعاء واسترجاعاً، وتحملاً وصبراً، وقد وعده على ذلك بالبشارة العاجلة، والأجر الجزيل في الآخرة، وهو وعد من الله، ووعده سبحانه حق,, فإن هذا من أمكن الطرق في التسلية، وامتثال القدوة بالعمل والاحتساب,, يقول سبحانه: وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون فهي بشائر ثلاث كل واحدة لها وزنها ودورها في سعادة النفس البشرية، وراحتها. وغير ذلك من الأمور، التي يجب أن يتمعن فيها المرء، وفي مردودها على المصيبة والمصاب، بما تسلو به القلوب، وتتعزى به النفوس، حيث تخف وطأة المصيبة، بجانب ما يحس به المصاب المحتسب في تعامله مع المصيبة، فيجد لذة ومسرة، أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه، فقد روي في باب الزهد مرفوعا: يود ناس، لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاء . فالله سبحانه وتعالى، اذا أراد بعبده خيراً ابتلاه بشتى أنواع المصائب، على قدر حاله حتى اذا هذّبه ونقاه، وصفاه، أهّله لأشرف مراتب العبودية في الدنيا,, ويحدد الشاعر مكانه الابتلاء عند الناس بقوله: قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم ولا يجب أن يظن المرء أن الصحة والجاه والمال، نعمة، بل هي بلوى وامتحان، لينظر الله ما يعمل فيها، ولا ما يقع على بعض الناس من مصائب وآفات، ان ذلك نقمة، بل قد تكون نعمة يؤجر عليها، بعدما امتحن الله إيمانه، وبرزت من ذلك خصال نفسه في حسن التحمل، وكيفية التعامل مع المصائب: من رضا وقناعة ودعاء مع الله وضراعه، وصبر وحسن تحمل. يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: البلايا على مقادير الرجال، فكثير من الناس، تراهم ساكتين، راضين بما عندهم، من دين ودنيا، وأولئك قوم، لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة، أو أن الله سبحانه علم ضعفهم عن مقاومة البلاء، فلطف بهم. وقصة عروة بن الزبير رحمه الله في صبره، وقوة تحمله، عندما حلت به مصائب عديدة، وهو في الشام عند الوليد بن عبدالملك: فقد رفست فرس ابنه محمداً ومات، وأصابته الآكلة في رجله، فرأى الأطباء قطعها، حتى لا تنتقل إلى سائر جسده، وعندما جاؤوا لقطعها، قالوا له: نسقيك المرقد أي البنج فقال: انما امتحنني ربي ليعرف مقدار صبري واحتسابي، قالوا: اذاً فإنا نسقيك الخمر، حتى لا تشعر، قال: لا أستعين بمعصية الله على طاعة الله، قالوا: اذاً نأتي برجال ليشدوك، حتى لا تتحرك,, قال: يقول سبحانه: واستعينوا بالصبر والصلاة . ثم قال: إذا سجدت فسوف أمدها لكم وشأنكم بها، فقطعوها وهو ساجد، لم يتحرك,, ولما سأله الوليد؟ قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً,. وقد جاء للوليد بن عبدالملك شيخ من عبس كفيف البصر، ولما جلس عنده في عشية أحد أيام، سأله الوليد عن حاله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بت في ليلة من الليالي، وما في عبس رجل أكثر مني مالاً، وخيلاً وإبلاً، وولداً، ولا أعزهم نفراً، وأكثرهم جاهاً. فطرقنا سيل جذب، وذهب بالأهل والولد، والمال وجميع الممتلكات، ولم يبق من ظعننا إلا: غلام ولد حديثاً، وبكر شرود وهو ولد الناقة الصغير,, فاتجهت للصبي وحملته، ثم لحقت بالبكر الذي ند، ولما عجزت عن اللحاق به، وضعت الصبي في الأرض، وسرت وراء البكر، فسمعت صراخ الصبي، ولما رجعت إليه وجدت الذئب قد أكله، فلحقت بالبعير، ولما أمسكت به، رمحني برجله على وجهي، فذهب بصري، والقاني على قفاي,, ولما أفقت اذا بي في المساء من أصحاب الثروة والمال والحلال، والولد والجاه، والمكانة بين القبائل، قد أصبحت في الغداة، صفر اليدين: لا بصر في عينيّ، ولا ولد ولا أهل ولا مال ولا غيره,, فحمدت الله على ذلك، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة بن الزبير، ليعلم أن في الدنيا من هو أكثر منه بلاء، وأشد تحملا وصبراً. ولابن القيم رحمه الله في كتابه: شفاء العليل، باختصار الدليل وابن الجوزي في مواعظه المجموعة في كتابه صيد الخاطر وغيرها من المهتمين بالرقائق، ما يعالج قسوة القلوب، ويعين على الصبر والتحمل، عندما تنزل البلوى، واحتساب العمل معها قربة عند الله، تخف به المصيبة، ويعظم معه الأجر. المهدي وفصّ الخاتم: جاء في كتاب المسالك والممالك لابن فرداذبّه: أن المهدي اشترى فصاً لخاتمه بمائة ألف درهم، وسبعين ألف درهم، وكان هذا الفص يعرف بالجبك وعمل عليه خاتما، فرأى يوما ولده هارون يكرر النظر اليه، فوهبه إياه، فلما توفي المهدي عهد الى ولده موسى الهادي، فقيل له: إن والدك كان له خاتم صفته كذا، وقد وهبه لأخيك هارون، ولا يصلح إلا أن يكون في يدك، لأنك أنت الخليفة وهو أمير. فوجّه في طلبه منه، وكان الرسول إليه يحيى بن خالد، فامتنع الرشيد من دفعه، وألحّ عليه أخوه الهادي في انتزاعه، فلما عاد اليه يحيى بن خالد في طلبه، وأعلمه أن أخاه تغيّر عليه بسببه، فأخذه هارون وركب مع يحيى بن خالد، يريد قصر أخيه الهادي، فلما توسط الجسر، انتزعه من يده، وقال: يا أبا الفضل انظر الى الخاتم، هل تعرفه؟! قال: نعم هو المقصود والمطلوب، فرمى به في نهر دجلة، ورجع في طريقه,, وقال للرسول: أعلمه بما رأيت, فمضى يحيى بن خالد وأعلم الهادي بذلك، فغضب ثم أمر بالغوّاصين، وأهل البحر، فغاصوا عليه، واجتهدوا في إخراجه، فلم يقدروا عليه، ولا وجدوه. فأقام الهادي خليفة أربع سنين واشهرا، ومات بعدما عهد الى أخيه هارون الرشيد, وتولى بعده، ثم مرّ يوما من الأيام بالجسر، ومعه يحيى بن خالد، فقال: يا أبا الفضل، أتذكر اليوم الذي ألقيت فيه الخاتم في هذا المكان؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال الرشيد: والله، لم أنس، وقد قذفته هكذا، ثم نزع خاتما كان في يده من فضة قيمته أربعة دنانير، فقذف به في ذلك المكان بعينه, ثم قال لأحد غلمانه: انزل إليه، لعلك تجده يعني الخاتم الفضة الذي رماه . فنزل الغلام، وغطس، فطلع بالخاتم الأول، والثاني,, وكان ذلك أمراً عجباً ص116 . وقيل إن سفيان الثوري دخل على المهدي، فكلمه بكلام فيه غلظة، فقال له عيسى بن موسى: تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام، وإنما أنت رجل من ثور, فقال سفيان: إن من أطاع الله من ثور خير ممن عصى الله من قومك.