*عرض: مصطفى النجار ما من نهضة أدبية إلا كان من ورائها نهضة فكرية تحتضن البذور ومن ثمَّ تطلق العنان للأغصان والأزهار والثمار. إن المذاهب الأدبية ما كانت لتزدهر وتتسع وتتجذر ما لم تكن قد أقلعت من أرض مهّدتها أقلام المفكرين, والشعر العربي القديم ما ازداد قوة وعمقا إلا بعد أن تغذّى بالآراء الناضجة. والمقصود هنا ليس خضوع الأدب والفن أثناء الولادات لسلطة الفكر أو الفلسفة أو الأيديولوجيا، وإلا كان المولود لا يتصف بصفات الفن بل تطغى عليه سمات هؤلاء، إنما المقصود التوجّه الشامل لأية نهضة في الفن أو الأدب لا يمكن أن يستمر عمقا وشمولا إلا في مناخ فكري حاضن وحافز ومرشد لهذه النهضة, ولعل الناقد د, ابراهيم العجلوني من الأردن الشقيق عرف هذه القضية الهامة فرسم بخطواته التطبيقية ملامح فكرية اتصف بها منذ كتابه النقدي نظرات في الواقع الثقافي,, الصادر عام 1979، فضلا عن ملامح نقدية تستضيء بالتراث الإسلامي والعربي فيقول مثلا: لكي تتم للأدب صفته يجب ان يعتمد على عنصري الخيال والجمال لكي يتم للأدب أثره وقوة جذبه الى قيم معينة يجب أن يعتمد على: أ القدرة الفائقة على رسم النموذج (المثل). ب الصدق مع الواقع أي أن تكون الحقيقة نصب عيني الأديب. ج الصدق مع الذات أو ما يسمى بالصدق الفني. ثم يضيف العجلوني قائلا: الوضوح والبساطة ركنان أساسيان لا يقوم بدونهما أدب ناجح إذ ينعدم بدونهما الاتصال بين المبدع والمتلقي, الأدب قوة محرّكة تستدعي التزاما وتوحي بالتغيّر. كل ذلك وغيره يوضحه العجلوني بعد أن يضع أمام القارىء قبسات من القرآن الكريم ومن الحديث الشريف وبعض أقوال السّلف الصالح، يستأنس بها في تأسيس نظرية نقدية عربية إسلامية تصب في محاولات بعض الجادين المخلصين المتنوّرين السّاعين الى التخلّص من التبعية الثقافية والفكرية والحضارية للآخر، ولآثار الوافد المستلبة لشخصيتنا. ويستمر العجلوني في هذا السبيل فيصدر عدة كتب منها: مسلمات في ضوء التحقق 1980 -في الفلسفة والخطاب القرآني 1984 وفصول في الفكر العربي 1987. أما كتابه المهم الجميل مواقف ومخاطبات الذي نحن بصدد الحديث عنه، يجيء به مؤكدا على مساراته السابقة، ومستظلا أكثر بالحرية الفردية رؤية واعية لما يحيط بالمرء فيقول (إن انفلات الفرد من ركام المجموع ورفضه أن يكون رقما من أرقام ثم سعيه للانتقال من الكينونة المجردة الى الشخصية الفاعلة ذات الخيار، هذا التحرر الفردي هو أساس تحرر المجتمع وهو اللبنة الأولى في الدولة). ويبدو أن العجلوني وقع خياره على أن يكون في المستوى الأعمق من إدراك العلاقات، وهو مستوى تراه القلة التي تتجافى عن الانخراط في الوعي العام، وتؤثر أن تكون لها رؤيتها الخاصة، كما أشار في أول بحث من بحوث هذا الكتاب، فقال:,, والذي أراه ويراه بعض المغامرين معي ان الموت مع الجماعة ليس رحمة بحال من الأحوال، وانه أهون على المرء أن يكون نبتاً شيطانياً هائماً في الفضاء من أن يكون موطأ الروح والعقل لغفلة الآخرين وجهل الآخرين وعماية الآخرين؟! وعبر (مواقف) التي تمتاز بالعمق والجرأة والمكاشفة والوضوع نجد الدكتور ابراهيم بأسلوب أدبي علمي يفند، ويحلل، ويدحض، ويسمي الأشياء بمسمياتها فيقول في مقالة الرافضون ص 22 مثلا: ما يعزز نظرته الى حرية الفرد والى النضج في الوعي والأخذ بالجوهر وعدم الركون الى خطأ مُجمع عليه مثلما حدث ذات يوم من أيام عام 1958 حيث طالب كما يقول العجلوني اتحاد الكتاب المسكوفيين بطرد واحد من الرافضين الروس من اتحاد الكتاب السوفيات وقد وقّع جميع أعضاء الاتحاد المذكور على وثيقة تتهم بوريس باسترناك بالخيانة والمروق وبأنه آبق وعدو للواقعية وغير ذلك من المفرقعات. كما يجد العجلوني ثمة علاقة بين الرفض والغربة فيستشهد بقول أبي العلاء المعري: أولو الفضل في أوطانهم غرباء إنما لا يغيب عن باله بأن التمرد يجب أن يكون رفضا للاستلاب العام. ومن هذه الزاوية يرفض أي ربط بين الفن وتخريب الجملة العصبية ومن ثم الجنون إذ يؤكد على ربط خلق العمل الفني بنظام وضبطه بقانون، ونفي المصادفة، ويعتبر الشاعر عاقلاً وعاقلاً جداً. ويدعو الى صفاء اللحظة الأولى والى دهشة الوعي البكر التي تخوّلنا طرح التساؤلات الجوهرية، من هذه العودة نفيه لمقولة شائعة بأن الفلسفة في العالم بدأت بطاليس أو بواحد بعينه من فلاسفة الإغريق إنما يقول: لقد كان من أفدح الأخطاء التي وقع بها مئات الباحثين في الفكر الإنساني أنهم انطلقوا من المركزية الأوربية، في رؤية تاريخ هذا الفكر دون ان ينتبهوا الى الأمم غير الأوربية او الى التاريخ الإنساني بوجه عام، ذلك أنه لا يعقل انه تظل اجيال البشرية معدومة الإحساس في هذا العالم الى ان بزغ فجر طاليس عام 585 ق,م؟! وفي الوقت الذي يلاحق الظواهر الخاطئة فهو في النقد الذاتي والإحساس بشقاء الآخرين ص 28) يؤكد على النقد الذاتي الذي سيظل هو السبيل الأمثل لامتلاك رؤية اكثر سعة ثم يقول في ص 30: ان النفس اللوّامة التي اقسم الحق بها في كتابه الكريم، نفس متسعة للآخرين، مرهونة بهم سعادة أو شقاء. كيف الوصول الى إنسان يمتاز عن غيره، بضمير يقظ ونفس مرهفة يحاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة قبل ان يحاسب الآخر؟. كنت أتمنى على الدكتور العجلوني معالجة هذا الموضوع الهام بشمول عرف به، وبوضع النقاط على الحروف للوصول الى ما يرتجيه إنساننا الباحث القلق المتشوّف؟! ومثلما طرح العجلوني في (مواقف) جملة من الآراء الفكرية نجده أكثر شاعرية في (مخاطبات) التي اشتملت على عدة عناوين منها: المقامة الخمسية في المحكمة الشرقية، تأملات في فلسفة السقوط، رسائل غير نمطيّة, ونجده أديبا من الطراز الرفيع من حيث الأداء واختيار اللقطات، وابتداع بعض اللقطات المستأنسة بقبسات من التراث العريق، والمستوحاة من أرض الواقع وبخاصة ما تبدَّى في المعالجة الذكية الساخرة التي تذكرنا بكبار الأدباء الناثرين الذين سطعوا في عالم النثر الفني أمثال الجاحظ وبديع الزمان الهمذاني في القديم، والمازني، واحمد حسن الزيات وغيرهما في هذا العصر، حيث يبدأ العجلوني المقامة الخمسية بهذه العبارة: رعاك الله أبا الوليد ما كان أنفد صبرك، وأحد بصيرتك، ورحم الله ابن شهيد صاحب التوابع والزوابع فإن خير ما التمس لنفسي ولك العذر به هو قوله وقد أُشبهت الحال: كأن الدجى همي ودمعي نجومه تحدّر إشفاقاً لدهر الأراذل هوت أنجم العلياء إلا أقلّها وغبن بما يحظى به كل عاقل وأصبحت في خلق إذا ما لمحتهم تبيّنت أن الجهل إحدى الفضائل ولن يخفى على القارىء المعاصر بأن أبا الوليد هو مثل ابن شهيد هما معا قناعان تاريخيان ومعاصران. ونجد في ترتيب وصياغة (تأملات في فلسفة السقوط) ما يلي: التأمل الأول: في الأشياء التي يمكن أن تكون موضع الشك. التأمل الثاني: في طبيعة الروح العربية التي نعرفها (أحسن مما نعرف واقعنا الملموس). التأمل الثالث: في (أن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون). مهارة يغبط عليها العجلوني، تدل على إبداع فكري تضمّن معالجة الواقع. ويختتم العجلوني تأملاته قائلا: وبعد، فيحسن الوقوف عند هذا الأمل على أن نعلم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم, مع الاعتذار لحكيم فرنسا (ديكارت) على استعادة عنوان كتابه الذائع الصيت (تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى). ونجد هذا الظرف وهذه الصياغة في رسائل غير نمطيّة حيث يستهل كل رسالة بما يلي: من العبد الفقير عبدالرحمن الصابر الى صديقه القديم عبدالوهاب السالك سبل الخير, من العبد الفقير عبدالرحمن الصابر الى صديقه القديم عبد المنان السالك سبل الإحسان, من العبد الفقير عبدالرحمن الصابر الى صديقه القديم عبدالرزاق السالك سبل الإغداق. ثم يختم هذه الرسائل بقوله: وبعد، أيها الصديق الصدوق والناصح والنصوح,, ألم تسمع بقول القائل: رب حكمة في رأس أحمق لا يستخرجها مليون عاقل ولو كان الشيطان لهم ظهيراً. حسنٌ,, إنني أنا الأحمق,, وأنت سيد العقلاء؟! ومن خلال سطور هذه الرسائل غير النمطية الجديدة المعاصرة، الساخرة والسخرية من أرقى طرائق التعبير والتصوير، إن كانت هادفة ليست للإضحاك والتنفيس,, نجد الهدف منها ومن أدائها الساخر حيث يتكىء على كليلة ودمنة فيجري بينهما حوارا ناقدا لمواصفات تعسفيّة. ويذهب العجلوني الى التاريخ ليستحضر شخصية هبنّقة الأحمق, فيوظف هذه الشخصية في حكاية تنتهي بالعبرة حيث وقف هبنقة خطيبا في الناس الذين استمعوا إليه تحت طلب من حكيم حنكته الايام والتجارب فما وجد إلا أن يهاجم هذا الحكيم بهذه الكلمات التي ساقها العجلوني في لوحة وصفيّة مرحة: تنحنح هبنّقة، ثم سعل، ثم حك رأسه مرارا، ثم سعل مرة أخرى، ثم أدار عينيه فيهم متأملا شأن من يبحث عن رجل بعينه منهم ثم سعل مرة ثالثة,, وقبل ان ينفد صبر الناس قال هبنقة وهو يشير الى رأس الشيخ وقد مالت عمامته فبانت صلعته: اللهم العن هذه الصلعة، واحشر صاحبها في جهنم، إنك أنت القوي المنتقم! وقبل أن يستفيق حكيم خراسان من غاشيته، كان الناس قد جعلوا عالي المنبر المنصوب سافله، ومزقوا أسمال هبنقة وورّموا أنفه، ولولا رحمة الله لكان من الهالكين. على أن هبنقه، حين أفاق من غيبوبته، انتحى جانبا ولملم ما تبعثر من خيزرانات منبره المخلّع، وقال في نفسه: إنهم لا يفهمونني هؤلاء الأغبياء، ثم بدأ يصلح منبره مرة أخرى!. ومثلما كان في حكاية هبنقة عبرة قديمة وجديدة فإن في نموذج الاستاذ فاضل من الواقع المعاش ما يثير في النفس، الحزن على النموذج الطيب، المتقن لعمله، المحترق في سبيل الآخرين، فكانت النهاية مكافأة على ما بذله هذا المواطن الفاضل فيما رواه العجلوني من خلال سياق حكايته المعاصرة:,, وذات صباح جاء من يطلب الاستاذ فاضل الى الإدارة، وكان بين يديه بعض الملفات لم ينهها، فاستأنى قليلا حتى انتهى منها، ثم أقفل ادراج مكتبه بهدوء، ومضى الى غرفة المدير، ومكث هنالك حوالي ربع ساعة ثم عاد مطرقا وقد بدت عليه مسحة حزن,, حاولنا استنطاقه عما حدث، لكنه أبى, غير اننا علمنا في اليوم التالي أن المدير قد خصم من راتبه أسبوعا، واتهمه بأنه يعيق سير العمل! من ذلك الحين والاستاذ فاضل كما ترونه، واجم ذاهل، لا يعبأ بسوى النظر من النافذة الى الشارع. وقبل أن نختم هذه الجولة من المفيد والمستحب أن نشير الى المقطوعات النثرية الفنية التي جاءت على نمط أوراق الورد عند الرافعي أو بعض تحليقات جبران خليل جبران أو غيرهما، لما تحتويه من لغة وخيال وصور وحكمة وتأمل، وكأنما أراد العجلوني وهو الشاعر إضافة الى كونه الباحث والناقد المهتم بأمور الفكر والفلسفة، أن يحقق طرفي المعادلة في الجمع بين معطيات الفكر ومعطيات الروح، بين العلم بمنهجيته، وبين الشعر والتأمل الشعري، كما حقق منذ البدء بين الأصالة والمعاصرة, ومن مقطوعاته التي بلغت الخمس أورد (رؤيا) حيث يقول: صحو مفاجىء، وعي خصيب مغدق يبعث الرؤى أسرابا طين يتشكّل، حلم عصيّ ينبثق من صخر الوقت سحب تنجاب كما الرغوة عن سماوات صافية بلا حدود ألوان تصطخب وتهدأ أيّنا القادم من تخوم الحقيقة؟ أيّنا الذي رأى؟ وأيّنا آخر الأمر، جرّح عينيه البكاء؟!. أجل,, أيّنا الذي يعي، يشعر، يقرأ، يكتب، يعيش يبدأ الخطوة، الخطوات الأولى على طريق الهوية الحضارية، في نفض الغبار عن الحقائق، في صياغة المنهج ورسم الطريق، وتحقيق الأهداف في توازن وانسجام من غير إفراط ولا تفريط يتعانق فيها الفن مع الحياة بعيدا عن صراع الأجيال في مساء تتوحد فيه الأزمنة. أجل أيّنا,, يدرك ما معنى أن يبدأ من جديد؟