قلما يمكن التمييز بين خطوط ومسارات عاملي السياسة والاقتصاد خصوصاً في العلاقات الدولية التي تبنى برمتها على المصالح القومية الاستراتيجية والحيوية للدول. هذا ما تدركه الدول تحديداً في صناعة سياساتها الاقتصادية التي تستهدف التعامل مع اقتصادياتها السياسية الموجهة لرفاهية مجتمعاتها الإنسانية. وهذا بدوره ما يقارب بين الدول أو حتى يباعد فيما بينها حتى وإن تقاربت أو تباعدت في عوامل الجغرافيا والتاريخ والثقافة المدنية والسياسية. النفط أو الذهب الأسود كما يطلقون عليه لم يعد سلعة استراتيجية دولية مصيرية وحسب، وإنما كان ولا زال يعد المحرك الاستراتيجي الرئيسي الأول لكافة النشاطات والسلوكيات والتعاملات والتفاعلات الإنسانية على كافة المستويات وعلى مختلف الأصعدة التي تعنى بحياة البشر وعلاقاتهم ببعضهم البعض، بل وعلى مستويات أنماط حياتهم المعيشية. فتكلفة أسعار النفط تدخل في كل الصناعات والنشاطات الاقتصادية والتجارية والإنسانية وتتدخل فيها جميعاً وتفرض وجودها وحضورها على كل ما يتعلق ويرتبط بها وبالتالي بكل ما تترتب عليه حياة ورفاهية الدول والمجتمعات الإنسانية في المنتظم الدولي. الحقيقة التي يعيها الجميع دون استثناء في السنوات الثلاث الماضية أن أسعار النفط ارتفعت بشكل كبير غير طبيعي لم يتوقعه كبار الكبار من عباقرة الاقتصاد ومن صناع القرارات الاقتصادية والمحللين الاقتصاديين في العالم كله. فما يشهده العالم كله في الوقت الراهن نتاج لسياسات اقتصادية تم اتخاذها وتبنيها وتسويقها في بداية التسعينات من القرن الماضي عندما هبطت أسعار النفط لأقل من عشرة دولارات للبرميل الواحد. فالانخفاض الكبير في أسعار النفط آنذاك لحقته بعد عقد واحد من الزمن تقريباً ارتفاعات ضخمة تركت آثارها السلبية على الاقتصاد العالمي وبالتالي على اقتصاديات الدول المنتمية إليه. السبب الرئيسي أو لربما الأسباب الرئيسية لارتفاعات اليوم لأسعار النفط قد لا تختلف كثيراً عن الأسباب التي لعبت دورها في انخفاض أسعاره بالأمس مما يجعلها محوراً حاراً وحاداً للنقاش والتحليل والحوار بين المهتمين بالسياسة والاقتصاد. فما حدث ويحدث حالياً في السوق العالمية للنفط من كر وفر في الإنتاج والتكرير والتصدير وبالتالي في الكميات المعروضة منه، وفي كميات الاستهلاك والتخزين، ومن ارتفاعات كبيرة في أسعاره أمر مستغرب وخطير في ضوء انعكاسات تلك الارتفاعات المطردة في الأسعار على كافة النشاطات الاقتصادية والصناعية بل وعلى أنماط الحياة المعيشية للمجتمعات الإنسانية. بسبب ارتفاع أسعار النفط يشهد العالم كله ارتفاعات حادة في أسعار المنتجات والسلع الاستهلاكية وفي أسعار المواد الغذائية، وفي تكاليف الصناعات والنشاطات الاقتصادية والتجارية، بل وفي حركة الاتصالات والمواصلات حتى بات الأمر والوضع برمته يشكل خطورة استراتيجية على حياة البلايين من البشر خصوصاً في العالم الثالث. تبعا لذلك تحققت الرغبة الصادقة التي أبداها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لعقد اجتماع دولي حول الطاقة وارتفاعات أسعار النفط وإيجاد حلول جذرية لهذه المعضلة الدولية وتبلورت في اجتماع جدة للطاقة الذي ينعقد يوم الأحد بحضور دولي كبير يفوق أكثر من 75 وفدا مشاركا من الدول والمنظمات الدولية وشركات النفط العالمية لمناقشة أوضاع السوق النفطية العالمية. اجتماع جدة للطاقة بهكذا حضور دولي كبير لمؤشر استراتيجي واضح على أهمية المملكة ومكانتها ومصداقيتها السياسية والاقتصادية العالمية، فدورها في وضع السياسات النفطية الاقتصادية العالمية لا يقل أهمية عن دورها في تنشيط حركة الاقتصاد السياسي العالمي وفي توجيه وتثبيت سياساتها الاقتصادية من خلال قدراتها الإنتاجية الكمية على لعب دور معتدل ومتوازن في استقرار حركة ما يمكن أن تعرضه من كميات النفط في الأسواق العالمية. هدف المملكة الرئيسي من اجتماع جدة لا يقل عن الحفاظ على الأمن والاستقرار الاقتصادي والسياسي العالمي كي يعود الاقتصاد العالمي إلى مجاريه الطبيعية، ولن يكثر عن حرصها على منع الأيدي الخفية من الاستمرار في العبث بحياة ورفاهية وأمن واستقرار دول وشعوب العالم كله.