قبل أسبوعين تقريباً وفي رحاب جامعة أم القرى بمكة المكرمة تحدث أمير الرياض صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود عن حياة مؤسس المملكة باني هذه الأمة ومشيد صرح الوطن العظيم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود- طيب الله ثراه- من منظور سياسي إنساني جديد وبطرح علمي جديد، وبمنطق موضوعي جديد ركز على الجوانب الإنسانية في سيرة حياة الملك الوطن.صحيح أن للمناسبة المجيدة تلك حديثا خاصا ذا شجون خاصة، كما هو الحال في من يقول أن للحوار الخاص حديثا خاصا بطعم خاص بيد أن تلك المناسبة كانت قمة من قمم حديث السياسة في حوار الإنسانية الذي لا يمكن إلا وأن يطغى على كل حديث، كيف لا والملك عبدالعزيز تمكن في ربع قرن من الزمن (1901م وحتى 1926م) من تحقيق هدف الانصهار السياسي لمختلف مناطق المملكة التي كانت تتقارب وتشترك في عامل الجغرافيا بيد أنها كانت متباعدة تماماً في كل ما عداها من عوامل إنسانية بداية من العوامل السياسية ومروراً بالعوامل الثقافية والحضارية ونهاية بالعوامل الدينية. الانصهار السياسي للمملكة يعني توحيدها ودمجها في بوتقة سياسية مركزية واحدة عندما أعلن عن الملك عبدالعزيز في عام 1926م ملكاً للحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، بيد أن ذلك الشكل المميز من الانصهار السياسي لم ينته بل تلاه شكل الانصهار المؤسساتي للدولة عندما تبلورت معالم إنشاء الدولة السعودية الحديثة بمؤسساتها السياسية بالإعلان في عام 1932م عن مسمى المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز لم تتوقف تحركاته وسياساته عند ذلك الحد وحسب، وإنما شرع منذ عام 1926م في تحقيق هدفه الكبير مجسداً في الانصهار الاجتماعي لجميع مناطق المملكة بعد أن أطلق سياسات التعليم الوطني الموحد، التعليم الذي وضع النقاط على الحروف الوطنية، وقارب بين العقول الوطنية، ووحد التصورات والأهداف الوطنية في معادلة وطنية إنسانية حديثة.الملك عبدالعزيز، الملك الإنسان كان على موعد مع التاريخ عندما فتح الرياض في عام 1319ه الموافق 1901م، لكن ذلك التاريخ كان البداية فقط لسلاسل متصلة من التحركات السياسية والعسكرية والإنسانية على كافة المجالات ليضم الأقاليم ويصهرها سياسياً ومن ثم ليصهرها اجتماعياً لينهي حالات الخلاف، وليضع اللمسات الأخيرة في حالات الاختلاف بين سكان مختلف المناطق والأقاليم. صهر الشيء يعني إذابة الاختلافات وإلغائها تشكيل كيان جديد من كينوناتها المختلفة بشكل يجعل منها ذات شخصية موحدة تتمتع بهوية جديدة وبانتماء جديد. هذا ما حدث تحديداً في المملكة التي كانت قبل عملية التوحيد السياسي لها من قبل الملك عبدالعزيز كيانات متنافرة وكانتونات متفرقة متناحرة ومتصارعة إلى درجة لا يمكن حسبانها في مصادر ولا تواريخ الأمم تسببت في بقاء الجميع في حالة من التخلف والضياع والتأخر. إنسانية الملك عبدالعزيز هنا تحديدا تجسدت في إيجاده لمصدر فكر إنساني موحد للشعب السعودي الجديد، وبناء ثقافة وطنية إنسانية جديدة تستوعبها العقول ويكتسي بها فضاء الوطن لينتقل بسرعة من حالة الضعف والتفكك والتأخر إلى مصاف الدول المتحضرة والمتمدنة والمتقدمة في كافة مجالات ومناشط ومناحي الحياة الإنسانية. كما وتتجسد إنسانية الملك عبدالعزيز في حرصه -رحمه الله- على احتواء الجميع وتبني حاجة الجميع ورفع الظلم والضيم عن الجميع دون استثناء حتى ممن كانوا يحقدون عليه ويناصبونه العداء. نعم هؤلاء وأولئك لم يعاقبهم الملك عبدالعزيز، ولم يبعدهم أو يجافهم أو حتى يعاتبهم على ما فعلوه وعملوه، بل قدم لهم يده وصافحهم وفتح لهم صدره ومنحهم ما يصبون إليه. لقد أثبت الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ما قاله نبينا محمد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم- بما معناه، أن الشديد ليس بالصرعة وإنما الذي يملك نفسه عند الغضب. فالكريم والرحيم هو الذي يصفح عند المقدرة. نعم إن الملك عبدالعزيز- رحمه الله- قائد مصيري فذ، وقائد سياسي تاريخي كاريزمي عريق صنفه الأعداء قبل الأصدقاء بأنه في طليعة القادة العظماء الذين بنوا الأمم وأوجدوا الدول الحديثة وغيروا مجرى التاريخ بعد أن منحوا الشعوب حقوقها في الخروج من أنفاق الظلام والتحرك بإرادة قوية ومستقلة إلى الأمام.. هذا جزء بسيط مما تم عرضه في محاضرة الأمير سلمان أمير الرياض عن والده الملك القائد الملك الإنسان الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله-.