رغم السيولة الكبيرة التي تتمتع بها البلاد منذ عام 2003 م فإن الكثير من القنوات الاستثمارية التنموية تعاني من الجفاف حيث لا يصلها إلا كميات قليلة متقطعة من تلك السيولة لأسباب بعضها منطقي وبعضها الآخر غير منطقي، مما أدى لنمو متواضع في أنشطتها ومنتجاتها وخدماتها بما لا يتناسب وحجم نمو الطلب على تلك المنتجات كماً ونوعاً، والذي أدى بدوره لارتفاع كبير في أسعارها مصحوب بانخفاض في جودتها في كثير من الأحيان. والقطاع التعليمي أحد تلك القطاعات التي تعاني من نقص حاد في السيولة التي تمر فيها كقناة استثمارية تنموية مجزية ذات قيمة مضافة، مما أدى إلى تواضع جودتها مقارنة بارتفاع أسعارها، فها هم الآباء يدفعون مبالغ تصل لأكثر من 15 ألف ريال كتكاليف سنوية ناهيك عن تكاليف النقل والمعاناة اليومية ليحصلوا على طالب ضعيف المعرفة متواضع المهارة، وكأنك يا أبا زيد ما غزيت. وكل من أطلع على التعليم في الدول المتقدمة يدرك تمام الإدراك أن التعليم لا يمكن أن يتطور بالاعتماد على الجهود الحكومية دون مشاركة فاعلة من القطاعين الخاص والقطاع غير الربحي، وكل ما نراه من إسهام القطاع الخاص هو مدارس أشبه ما تكون بالبقالات ضعيفة المستوى متهالكة المباني إلا ما ندر منها، ضعيفة المخرجات نتيجة لضعف القائمين عليها والرقابة شبه المعدومة. والتعليم في المملكة لن يتطور ليكون مصدراً مولداً للموارد البشرية عالية الكفاءة دون توجيه كم كبير من السيولة إلى القطاع التعليمي لإنشاء شركات تعليمية برأس مال كبير، شركات قادرة على استقطاب وتأهيل الكوادر البشرية المتميزة والواعدة وعلى التحالف مع مؤسسات عالمية تطور من مناهجها وطرق وأساليب تدريسها، شركات تستطيع أن تلعب دور الشريك الفاعل في حث وزارة التربية والتعليم لتطوير التعليم في البلاد ومساندتها في تحقيق التطور النوعي المستمر بما يتناسب والمتغيرات المتسارعة. لماذا يحجم المستثمرون عن الاستثمار في هذا القطاع المهم والحيوي والمربح والتنموي بمشاريع تعليمية عملاقة؟ باعتقادي لأنه قطاع يحتاج لخبرات فنية وتسويقية وتشغيلية وإدارية متميزة لا يمتلكها المستثمرون مما يجعلهم يتقاعسوا عن الاستثمار في هذا القطاع رغم ما تقدمه الحكومة من تسهيلات ودعم ومساندة حيث تقدم وزارة المالية قروضاً كبيرة لمن يستثمر في هذا القطاع، كما تتنازل وزارة التربية عن الأراضي المخصصة بالمخططات للأغراض التعليمية لمن يرغب في استثمارها إضافة لما تقدمه وزارة المالية من أراضٍ متاحة بالتأجير منخفض التكلفة، وما يقدمه صندوق الموارد البشرية من دعم تدريبي ومالي لمن يساهم في استقطاب وتأهيل وتوظيف المدرسين السعوديين. ما هو الحل إذا؟ الحل يتمثل بقيام بعض شركات التطوير الاستثماري القادرة على استقطاب الكفاءات التعليمية الوطنية ذات الخبرة الطويلة في المجال التعليمي وإعداد دراسات جدوى اقتصادية دقيقة تأخذ في المتغيرات بعين الاعتبار لتطور مشاريع تعليمية عملاقة ذات عوائد مالية مجزية متوقعة، ومن ثم تعرضها على المستثمرين الإستراتيجيين الذين يرغبون بوضع جزء من استثماراتهم في مشاريع إستراتيجية متوسطة المدى تحقق لهم عوائد مجزية بمخاطر قليلة، لتقوم بعد ذلك باحتضان المشروع لمدة زمنية حتى تتأكد من تطوره بالشكل المطلوب لينطلق بعد ذلك بالعمل وفق أنظمة الشركات المتعارف عليها، وبظني أن وزارة التربية ووزارة المالية وغيرها من الوزارات ذات الصلة ستقدم كافة أشكال الدعم والمساندة لإنجاح مثل هذه الشركات التي ستساهم مساهمة فاعلة في توفير التعليم كخدمة أساسية بجودة عالية وبأسعار تتناسب ونوعية الخدمة التي سيحصل عليه الطالب. وللعلم فإن مثل هذه الشركات تستطيع أن تحقق إيرادات مالية من مصادر متعددة إضافة للمصدر الرئيسي المتمثل بتكاليف الدراسة التي يتحملها أولياء الأمور، حيث بإمكان هذه الشركات أن تؤسس شركات عقارية تقوم بمهمة شراء الأراضي وتطويرها لمباني مدرسية وتأجيرها للشركة الرئيسية وللغير، كما تستطيع أن تستفيد من هذه المباني في تحقيق إيرادات من خلال استثمارها في الفترات المسائية كمراكز تدريب، كما تستطيع أن تحقق إيرادات أخرى من خلال خبراتها التي ستتراكم مع السنوات حيث يمكنها أيضا أن تبيع وكالة الFranchise التي تثبت الجودة والوفاء بالوعود، وكل ذلك ممكن ومتاح. كلي ثقة برجال الأعمال السعوديين بالاتجاه لمثل هذه الاستثمارات التنموية التي تحول السيولة إلى قيمة مضافة لصالح الوطن إضافتها لتنميتها بنسب معقولة في استثمارات قليلة المخاطر، وكلي ثقة أن مثل هذه الشركات التعليمية ستنمو بشكل كبير في ظل وجود فجوة كبيرة بين المعروض نوعيا والمطلوب، وفي ظل الطلب المتنامي على الخدمات التعليمية المتميزة، وفي ظل شح أو انعدام رياض الأطفال المؤهلة لتطوير قدرات الأطفال في سنواتهم الأولى والتي يبدو أن وزارة التربية والتعليم تركت مهمتها بالكامل لأصحاب البقالات، عفوا المدارس الخاصة.