الرحالة الفارسي ناصر خسرو القبادياني أحد أشهر الرحالة المسلمين في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر ميلادي). ولد رحالتنا في شهر ذي القعدة سنة (394ه) في قباديان من نواحي (بلخ)، وتوفي سنة (481ه) في وادي (يمكان) التابع لمدينة (بدخشان ) الواقعة في أقصى شمال بلاد الأفغان. ينحدر ناصر خسرو من أسرة خراسانية نبيلة، وقد اشتهر بعض أفرادها بالجاه والثراء والنفوذ نعرف من أفرادها أبا الفتح عبدالجليل الذي تولى منصبا إداريا رفيعا خلال وزارة عميد الملك الكندري وزير ألب أرسلان السلجوقي. ولقد نشأ رحالتنا نشأة تليق بأبناء الأسرة الفارسية العريقة، فحفظ القرآن في صباه، وتعلّم شيئا من الخطب والأشعار العربية والفارسية، فقد كان اتقان اللغة العربية والاطلاع على أبواب الثقافة الاسلامية شرطا أساسيا لتسلّم المراكز المرموقة في إيران وغير إيران خلال العهد الذي ترعرع فيه ناصر خسرو القبادياني. ما ان بلغ ناصر خسرو القبادياني مرحلة الشباب حتى نراه موظفاً نابهاً من موظفي البلاط المحمودي السلطان محمود الغزنوي ، فهو يشير إشارة، بل إشارات متكررة الى أنه كان من المسئولين في بلاط يمين الدولة محمود الغزنوي سنة (421ه) عندما كان ناصر خسرو في حدود السابعة والعشرين من عمره. ظل رحالتنا في الأعمال الديوانية في عهد الغزنويين، مسؤولاً عن الشؤون المالية، وربما كان هذا المركز المالي المرموق هو سبب إقامة ناصر الدائمة في مدينة (بلخ) العاصمة الشتوية للغزنويين. بقي ناصر خسرو زمناً في الأعمال الديوانية، خادماً أميناً وفياً للغزنويين وبعض سلاطين السلاجقة عندما سقطت الدولة الغزنوية في أيديهم سنة (439ه). كان ناصر خسرو يتمتع بعقل جبار وقريحة متوقدة، وفؤاد ذكي، وكان فوق كل ذلك يمتاز بهذا القلق الفكري الخالد الخلاق الذي يتميز به هذا النفر القليل من البشر الذين تهيئهم الأقدار لتحمل جسيمات الأمور في مقتبل حياتهم. لم يحظ ناصر خسرو بما يستحق من العناية والاهتمام في عصره لأسباب متعددة، لعل أهمها حماسه الشديد للمذهب الإسماعيلي في مصر، وهو مذهب لم يكن يجد القبول والترحيب في ذلك العصر، ولم يكن رحالتنا مجرد متحمس لتلك النحلة، بل كان أحد كبار الداعين إليها، بل لقد كان داعي دعاة الفاطميين في خراسان. والدعوة الفاطمية وما أثارته من جدل واختلاف في العالم الاسلامي موضوع واسع جدا وعميق لا تتسع حوصلة هذه الورقات المحدودة للخوض فيه. لقد كان ناصر خسرو قبل القيام بهذه الرحلة العتيدة، يعمل في الديوان السلجوقي في خراسان، وكان يمارس هذا النوع من السلوك الذي كان يغلب على عمّال الدواوين يومذاك من لهو ولعب، وانغماس في تدبير المكائد وتوقي المصائد، وجري وراء المال والنفوذ والجاه. كان رحالتنا يرصد هذه السعايات والوشايات والمكائد التي كان يزخر بها البلاط السلجوقي، ويراقب بدقة شديدة موقف بغداد من هذه التركمانية (السلاجقة) الوافدة من سهول آسيا, ويفكر في القيام برحلة يستكشف من خلالها ما يدور حوله في العالم الإسلامي يومذاك. وسنرى في الورقة التالية كيف سارت الأمور معه.