يتفق الدارسون على أن أعظم شعراء اللغة الفارسية منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم هم الستة: الفردوسي، الخيّام، أنوري، رومي، سعدي، حافظ. لكن المرء كما يقول الباحث الإيراني ميرزا محمد قزويني يمكن أن يضيف، وبثقة «الشاعر والفيلسوف العظيم ناصر خسرو إلى هؤلاء الستة، طالما أن كل الخصائص المميزة والصفات الفنية التي جعلت هؤلاء الستة في الصف الأول من شعراء الفارسية هي موجودة بتمامها، ومن كل جهة، في شخص ناصر خسرو». ومرد عدم شهرة الأخير قد يكون متعلقاً بولائه للمذهب الإسماعيلي كما تفسر الباحثة أليس هنزبيرغر في كتابها «ناصر خسرو، ياقوتة بدخشان» الذي تتناول فيه تجربة هذا الشاعر عبر أربع مراحل: سنواته المبكرة حتى تحوله الديني في سن الأربعين، ثم رحلة السنوات السبع التي وثقها في كتابه «سفر نامه»، ثم عودته إلى موطنه خراسان رئيساً للدعوة الإسماعيلية، وأخيراً نفيه إلى جبال البامير من بدخشان في مقاطعة يومغان. ولد ناصر خسرو سنة 1004 ميلادية في قباديان في مقاطعة بلخ من خراسان، وتوفي في 1077 في يومغان، شرق إيران. تغلب على شعره الحكمة والعبرة والقيم الأخلاقية، وهو ينبه القارئ لصرف اهتمامه نحو مهمة الترقي الروحي عوضاً عن الجري وراء بهرجة مادية هذا العالم. كتب خسرو في ثلاثة أبواب متميزة هي: الرحلات، الشعر، الفلسفة، وكل واحد منها يفتح نافذة على شخصيته. تميز خسرو بالكتابة بلغته الأم، الفارسية في عصر كانت فيه العربية لغة عالمية للخطاب السياسي والفكري من أسبانيا (الأندلس) إلى الهند، فيما معظم زملائه الإيرانيين، كالفيلسوفين ابن سينا والفارابي، كانوا حريصين على كتابة أعمالهم بالعربية، فضمنوا بذلك سمعة وانتشاراً، لم يبلغهما خسرو على رغم جدارته. استمتع خسرو إبان أيامه المبكرة وهو الذي كان على معرفة بسلاطين الغزنويين أولاً ثم عمل لخلفائهم السلاجقة بحياة من الدراسة والشعر والنساء والأصدقاء. بعد تجاوزه الأربعين ترك كل شيء وراءه ومضى في رحلة يستكشف فيها العالم، محاولاً فهم مغاليق الحياة عن كثب. انطلق من آسيا الوسطى إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ومصر وشبه الجزيرة العربية، وراقب بعين الفضول، والرغبة في معرفة البنية الإدارية والمادية التي أقامها كل مجتمع في المدن التي مر بها: دياربكر، حلب، طرابلس، صيدا، القدس، القاهرة، مكة، الإحساء، البصرة، أصفهان... وغيرها. كتب عن أسوار هذه المدن وأقنية الري فيها، وعن تعبيد الطرق، وأحوال الضرائب، وممارسات التوظيف، وسياسات الأجور... وأجرى نقاشات مع أمراء وفلاحين وموظفين وشعراء، وقارن بين الأسواق التجارية في القاهرةومكة وخراسان. أدرج خسرو كل ذلك في كتابه «سفر نامه» الذي يشكل وثيقة تاريخية عن السياسة والآثار والإدارة والمجتمع والدين والعادات والدفاعات العسكرية للمنطقة، عبر اختبار ذلك بالتجربة الذاتية، فهو يصف في هذا الكتاب مشاهداته الحية وتجربته الشخصية ذلك أنه لا يؤمن إلا بالتجربة، وكمثال على ذلك يقول بأنه سمع بأن وادياً قرب القدس يدعى وادي جهنم يستطيع المرء أن يسمع على حافته صراخ الناس في جهنم غير انه لم يأخذ الأمر على عواهنه، فذهب إلى هناك ليتأكد: «ذهبتُ إلى هناك لكنني لم اسمع شيئاً». الحكمة وتمثلت الانعطافة الكبرى في حياته لدى إدراكه بضرورة أن يكون له هدف ما في هذه الحياة على وجه التحديد إثر رؤيا ظهرت له في المنام حيث وجه له رجل لغزاً في ثلاث جمل: الاهتمام بصفاء حواسك، البحث دائماً عما يزيد العقل والحكمة، وأن تهدي الآخرين إلى تلك الحكمة. ولم يشأ شاعرنا تجاهل هذه الرؤيا بل رهن قدره لها ومضى يبحث عن جواب لسؤال: لماذا يوجد ذلك كله ؟ لماذا العالم؟ ولماذا السعادة الإنسانية؟ ولماذا الحزن؟ ولماذا توجد الدرر الجميلة داخل محار قبيح؟. كان الجواب، الذي وضع من أجله مؤلفات عدة شعراً ونثراً، بأن على المرء أن يبحث ويعمل للعثور على الذات السامية المترفعة عن الصغائر و»لن نعثر على هذه الجوهرة ولن تشع ما لم نعمل وما لم نضح وما لم نبذل الجهد الواعي، وهذه تتم من طريق إعمال العقل» (العالم محيط عميق، ماؤه هو الزمن / جسدك هو كالمحارة، ونفسك هي الدرة / فإذا رغبت بالحصول على قيمة الدرة ،/ فارفع درة نفسك بالعلم). وهنا أخذت شخصيته الدينية والأدبية والسياسية تتبلور، وأخذت شكلها الأرقى الذي صقلته تجارب الحياة من دون أن يتمكن من إرضاء المحيطين به، فقد انطوت شخصيته على مفارقة تغذت بنيران توأمي الخصومة والإعجاب لتجعله يبدو إما كملك ذميم يخدع أتباعه الغافلين نازلاً بهم إلى درب الشعوذة، أو كفيلسوف ناسك يحض أتباعه على الثبات على درب النجاة بالالتفات إلى إحاطته بالحقيقة التي تظهر في شعره ونثره وشخصيته الملهمة، فتنتهي صورته، ببساطة، عبر هذين النقيضين، كوسيط إما للخير أو للشر لكن رغم ذلك بقيت رغبته في الحياة تتقد بالقناعة بأن لكل شيء هدفاً أسمى. وهو يرى بأن الدرة في محارتها التافهة ترمز إلى الروحاني كامناً داخل الجسماني؛ إلى النفس حبيسة الجسد. وهو يدعو قراءه إلى اكتشاف الألق المستور داخل ذواتهم ويحضهم على التخلي عن السير وراء المتع الجسدية، والسعي، بدلاً من ذلك، وراء المتع الروحانية. وسخر من حياة شاعر البلاط الذي يقول الكذب الجميل من اجل ثروة دنيوية على رغم أن المديح يغلب على شعره، إذ مدح الخليفة المستنصر الفاطمي والأمير علي بن الأسد الذي وفر له الملجأ في منفاه. لكن مدائحه كانت دينية في مجملها، كما تشير هنزبيرغر «فقد ميز هو نفسه بين مدح شخص يستحق المديح، وبين مجرد التملق لشخص يمسك بيديه زمام كيس نقوده». ويستغرب خسرو من المبالغ التي كانت تدفع لموظفي البلاط الفاطمي في القاهرة «لا يقل رزق الواحد من أبناء الأمراء عن خمسمئة دينار وقد يبلغ الألفين، وليس لهم عمل إلا أن يذهبوا ليسلموا على الوزير حين يركب ثم يعودون»، وهذه إشارة مبكرة من شاعر يتمتع بنزعة إنسانية، إذ يلاحظ بعينه الثاقبة الفساد المستشري بين أبناء الطبقة الحاكمة، التي تتحكم بثروات البلاد في مختلف العصور. وتبنى خسرو، آنذاك، موقفاً سبق مواقف الفكر الماركسي اليساري في العصر الحديث، عندما أثار مسألة الأجور ورأى ضرورة دفع أجور عادلة للناس مقابل أعمالهم، فذلك يؤدي إلى قيام قوة عمل راغبة بإنتاج مواد ذات نوعية أفضل، لافتاً إلى أن «دفع رواتب مجزية للقضاء يساعد في إبقاء القانون عادلاً وينقذ المواطنين من أحكام جائرة». أمضى السنوات الأخيرة من حياته في المنفى تحت حماية أمير محلي في مكان ناء في جبال بدخشان (شرق إيران). ولكونه صار معزولاً فقد حول طاقاته نحو الداخل، واستغرق في قراءة الذات، وتميزت أشعاره في هذه المرحلة الأخيرة باليأس والحزن والمرارة الناجمة عن نفيه. لكنه، وفي مختلف مراحل حياته، استطاع أن يفتح أبواب الأمل عبر البحث المضني في العثور على الدرة الكامنة في الجسد، ولا تزال أشعاره تدرس في صفوف الأدب الفارسي بل أنها تتلى عن ظهر قلب وتتخلل الأحاديث الفارسية عندما تكون هناك حاجة لحكمة توضيحية، أو للتذكير بمثال عن رجل حاربه الجميع فتصالح مع نفسه، ووجد في ذلك طريقاً إلى الخلاص.