وقد أمر رئيس أركان الجيش الهولندي باعدام شريط الفيديو الذي سجل المجزرة لأنه حوى صورا لجنود هولنديين من حفظة السلام وهم يشاهدون عملية الاعدام الجماعية!!,, وقد اشتكت جماعات حقوق الانسان من أن عملية اعدام شريط الفيديو حرمت محكمة مجرمي الحرب في لاهاي من دليل واضح. لم ينم اللاجئون داخل المعسكر الهولندي تلك الليلة، فقد كانوا يسمعون طلقات الرصاص المتتابعة يرافقها صرخات آدمية تدمي القلوب, كان الجنود الصرب وبرفقتهم كلابهم البوليسية يحرسون الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمعسكر خشية أن يفر أحد من المسلمين الذين التجأوا اليه, كان التوتر باديا على الجنود الهولنديين وبخاصة أولئك الذين وصلوا الى المعسكر بعد هبوط الليل, لقد وصف أحد المترجمين في المعسكر حالهم بقوله: كنت تقرأ في وجوههم أن شيئا رهيبا يجري في الخارج لكن أحدا منهم لم يقر بما كان يحدث , وعلى الرغم من معرفة الهولنديين لما كان يجري وأن الصرب كانوا يفصلون الرجال عن عائلاتهم بعد خروجهم من المعسكر ويسوقونهم الى حتفهم، إلا أنهم أجبروا كثيرا من المسلمين الذين لجأوا اليهم على ترك المعسكر, قال لهم فرانكلن إنه سوف يسجل اسماءهم جميعا ويرسل نسخة منها الى الأممالمتحدة وأخرى الى الصليب الأحمر وثالثة الى الحكومة الهولندية ويحتفظ بنسخة في سراويله! كضمان أنهم لن يؤذوا بواسطة صرب البوسنة!,, ولقد كانت فجيعة رهيبة عندما وجد حسن أن عائلته نفسها لن يسمح لها بالبقاء في المعسكر, وعندما راح يرجو الضباط الهولنديين الذين خدمهم باخلاص طوال فترة الحرب أن يسمحوا لأهله بالبقاء لم يزد هؤلاء أن مصمصوا شفاههم وأطرقوا بأعينهم الى الأرض وراحوا ينقلون ثقل اجسامهم من قدم الى القدم الأخرى, كانت الحجة التي استطاعوا ان يأتوا بها أخيرا هي أن فرانكلن أمر بترحيل كل الأشخاص غير المصرح لهم بالبقاء حتى لا يعرض حياة الآخرين للخطر!!,, لم تجد كل توسلات حسن فقد حسم فرانكلن الأمر بقوله لدي مشاكل أخرى كثيرة ولا أريد الخوض في هذا الأمر أكثر من ذلك , لجأ حسن الى رجال المراقبة الثلاثة الذين لجأوا بأنفسهم الى المعسكر الهولندي, وكان الرد أن نهره أضخمهم جثة قائلا: اغرب عن وجهنا !!. في يوم 13 يوليه خرجت عائلة حسن من المعسكر الهولندي وسلمت مصيرها الى أيدي القوات الصربية, كان حسن يبكي وقد أمسك بيد أخيه الأصغر الذي كان على يقين أنه سيقتل لأنه في سن الجندية, كان وجه الأم أشبه بوجوه الأموات, أما ملامح الأب والأخ الأصغر فقد كانت صارمة جامدة, اراد حسن أن يرافقهما إلا أن أخاه طلب منه بهدوء أن يعود لعمله, في منتصف الطريق الى البوابة قابلهما العقيد فرانكلن وأخبرهما أن بإمكان الأب فقط أن يبقى في المعسكر لأنه كان في الاربع وعشرين ساعة الأخيرة يعمل كواحد من ممثلي المسلمين في اجتماعات عديدة عقدت بين الهولنديين والقوات الصربية, إلا أن الرجل الكبير رفض عرض العقيد الهولندي قائلا: كيف أبقى هنا وأدع زوجتي وابني يذهبان وحدهما؟ ورد فرانكلن قائلا: حسنا طالما أن هذا قرارك !,, يقول حسن ان فرانكلن أراد من عائلة واحدة أن تنفصل الى جزءين, وأن تقرر ذلك خلال ثانيتين فقط, كانت آخر كلمات حسن الى أبيه: أخبر باركو أنني أحبه , قبل مغادرة المعسكر قبل والد حسن العقيد فرانكلن وذلك محاولة أخيرة للظهور أمام الجنود الصربيين أنه قريب من الضابط الهولندي وقوات حفظ السلام. تقول بعض الروايات ان باركو قد انتزع من عائلته حالما خرجت العائلة من المعسكر وأن الأب ضرب ضربا مبرحا, بقي حسن يدور في المعسكر على غير هدى وقد فقد كل إحساس بوجوده بل وبالحياة حوله, في نفس الليلة وصلت شحنة غذائية ومشروبات كحولية من القوات الصربية الى المعسكر الهولندي أمضى على أثرهما الجنود الهولنديون ليلتهم في احتساء الخمر والغناء والرقص على أنغام الموسيقى. يعاني حسن اليوم معاناة رهيبة من الشعور بالذنب الذي يحسه الانسان اذا ظن أنه أنقذ نفسه بالتضحية بالآخرين, لقد غسل الهولنديون أيديهم من حكاية عائلته مدعين أنهم عملوا ما يمكنهم عمله في ظل الظروف التي كانت سائدة, يقوم دفاع الهولنديين عن تقصيرهم على أساس أنهم كانوا أقل عددا من صرب البوسنة واضعف تسليحا, ولكن السؤال الرئيسي الذي ما زال يحير العالم هو: الى أي مدى كان اهتمام أولئك الهولنديين بالمسلمين الذين جاءوا لحمايتهم؟!, ان الحكومة الهولندية تضع اللوم كله على الأممالمتحدة التي تقاعست في اصدار الأوامر بتوجيه ضربات جوية ضد القوات الصربية قبل هجومها الرئيسي الأخير, لقد أصبح ممكنا الآن اظهار الحقيقة المؤلمة البشعة حول المجزرة البشرية التي حدثت عند احتلال الصرب لسربرنيتشا. هذه الحقيقة هي أن المجتمع الدولي بأكمله قبل بفناء جميع الرجال المسلمين البوسنيين القادرين على حمل السلاح والدفاع عن بلادهم وأن تلك اللعبة السياسية كانت أشمل حتى من المؤامرات التي كانت تحاك ضد المسلمين في العواصم الغربية! نتيجة لذلك لم يعد هناك مكان للاستغراب أن الجيوب التي أعلنت آمنة كانت تستباح واحدة بعد الأخرى دون أن يحرك أحد ساكنا!. أصبحت الأممالمتحدة هي البقرة التي سقطت وتكالبت عليها السكاكين، وبخاصة من قبل الولاياتالمتحدة، عندما سقطت سربرنيتشا, لقد ازدادت المأساة سوءا عندما حدث خلاف بين جناحي الأممالمتحدة العسكري والمدني اللذين عادة ما يسود الانسجام بينهما, كان من الواضح أن الهولنديين لن يتحدثوا عن أفظع مأساة انسانية حدثت في العصر الحديث، حيث انتهكت الى الحضيض أبسط حقوق الانسان في البوسنة، وجرى من الآلام والعذاب للمسلمين في أواخر القرن العشرين مالم يسمع بمثله من قبل, لم يتكلم الهولنديون عن ذلك لأن فرقتهم كانت المكلفة بحفظ السلام والابقاء على أرواح المدنيين ولم تفعل من ذلك شيئا, كما لم يتكلم الهولنديون عما حدث خوفا على أفراد فرقتهم نفسها من الهلاك على أيدي الصرب, لقد جرى اخلاء خمسة وخمسين جنديا هولنديا من سربرنيتشا في 15 يوليه, لقد شاهد أولئك الجنود الهولنديون مناظر مأساوية ينفطر من هولها القلب ويقطر لها الضمير ألما وخزيا, كانت هناك عشرات الجثث لرجال ونساء مسلمين مبعثرة على الطريق، كما كانت هناك شاحنات تسير بمحاذاة شاحنات الجنود الهولنديين وقد غصت عن آخرها بالرجال والنساء الذين كانت أيديهم مربوطة ومرفوعة فوق رؤوسهم وهم في طريقهم بحراسة الجنود الصربيين الى حقول القتل!!,, وعند وصول جنود هولندا الى زغرب أخفتهم وزارة الدفاع الهولندية عن أعين العالم, لم يتكلم الهولنديون عن المآسي التي حدثت في سربرنيتشا إلا بعد أن غادر آخر جندي هولندي موقعه في بوتوكاري ووصل الى زغرب, بعد ذلك فقط قص الهولنديون على موظفي الأممالمتحدة ما رأوه من فظائع اقترفت ضد المسلمين, ولو كانوا كشفوا عما يعرفونه بوقت مبكر لتغيرت الصورة تماما, ان مراعاة الهولنديين لمصالحهم الخاصة، وأولها حماية جنودهم، جعلتهم لا يترددون في منع ايصال المعلومات عن حقيقة الأوضاع في البوسنة، وبخاصة في المناطق المسماة الآمنة وأهمها سربرنيتشا، الى الجنرال سميث قائد قوات الأممالمتحدة في البوسنة, وعلى الرغم من ذلك فإنه يبقى من غير المعقول ألا يكون لدى الجنرال سميث معلومات كافية عن المذابح التي كانت تقترف ضد المسلمين, كان بإمكان الجنرال أن يحصل على المعلومات التي يريدها من العواصم الغربية وبخاصة الولاياتالمتحدة التي كانت أقمارها الصناعية تلتقط صورا لمناطق الذبح الجماعي الذي حل بالمسلمين, ولكن واشنطن لم تكشف عن وجود تلك الصور إلا في 10 أغسطس!!,, لم يعلق الجنرال سميث نفسه على الموضوع, ولكن بعض مساعديه المقربين يقولون إن الهولنديين لم يطلعوا الجنرال على تفاصيل ما عرفوه عما كان يجري في سربرنيتشا قبل أن يغادرها وقبل ان يوقع الجنرال اتفاقا مخجلا مع الجنرال زعيم صرب البوسنة اعتبره جنرال الأممالمتحدة خطوة أولية محدودة نحو تطبيع العلاقات معهم بعد المذابح التي اقترفوها في سربرنيتشا!!!,, لقد تقابل سميث ومالديش في مطعم هان كرام، وكان ذلك أول اجتماع لهم منذ مارس, ولم يكن ما يشغل سميث في ذلك الاجتماع وهو يقابل زعيم الصرب في مطعم، معرفة الأهوال التي اقترفها الجنود الصربيون في سربرنيتشا, كان همه أن يسهل خروج الفرقة الهولندية من الجيب الذي يسيطر عليه الصرب وكذلك أن يزيل اي سوء تفاهم مع زعيمهم مالديش حتى يتمكن من سحب جميع جنود الأممالمتحدة من المناطق التي يهددها الجنرال الصربي وجنوده!!. ونتيجة لذلك الاتفاق لم تُقل كلمة واحدة عن آلاف المفقودين من الرجال المسلمين في سربرنيتشا!,, كما حذف من الاتفاق أي اشارة الى أسرى الحرب والمحتجزين, ان الاشارة الى أسرى حرب كانت ستعطي المسلمين حقوقا كفلها لهم اتفاق جنيف، بينما لا تعطى تلك الحقوق الى المحتجزين وعندما اختلف سميث ومالديش حول أي كلمة تستخدم وافق سميث على شطب الكلمتين كليهما من فقرة كانت مخصصة لإطلاع الصليب الأحمر وكان ذلك كل ما يتمناه مالديش لأنه ورجاله كانوا يقومون بذبح المسلمين في ذلك الأسبوع نفسه, قال أحد الدبلوماسيين الغربيين فيما بعد:لقد كان سميث يعرف أن ذلك الاتفاق مشين وان رائحة العفونة والخيانة تنبعث منه ولكن لم يكن لديه خيار آخر . كان هناك بين الدول الغربية، مجموعة تسمى مجموعة الاتصال وهي تتكون من بريطانيا وفرنسا وأمريكا والمانيا وروسيا, لقد استخدمت تلك المجموعة سميث بحيث جعلته يبرم اتفاقا مع مالديش بينما هي تعد لقصف جوي ضد القوات الصربية, كان هدف المجموعة أن تخرج الفرقة الهولندية من سربرنيتشا بأقل قدر ممكن من الخسائر في الأرواح، بينما في الوقت نفسه كانت قد قررت تنفيذ القصف الجوي ضد القوات الصربية, حول هذه الصفقة يقول كريس جنيس المتحدث باسم الأممالمتحدة في زغرب:أعتقد أنه لم يكن هناك مفر من اتخاذ القرار بالتضحية بجميع شباب البوسنة من المسلمين القادرين على حمل السلاح كي يتسنى الوصول الى حل سياسي كان قد قرر في مؤتمر لندن وهو استخدام السلاح الجوي بشكل واسع بعد أن يكون تم سحب جنود الأممالمتحدة حتى تبدأ الأحداث تتحرك بسرعة نحو نهاياتها , ان الخطة كانت خبيثة للغاية، حيث إنه في تلك المرحلة بدأت الدبلوماسية تتحرك بحيث كان على طاحونة السياسة أن تطحن في طريقها بعض الناس ومن سوء حظ المسلمين أن هذا البعض كان المسلمين. لقد هزت مأساة سربرنيتشا ضمير العالم ودفعته للتحرك ولكنها دفعت مقابل ذلك الثمن غاليا من دماء أبنائها, أصدر سميث أمرا بالقصف الجوي كان نتيجته التوصل الى وقف اطلاق النار ومن ثم اتفاق دايتون للسلام الذي أعطى مذابح سربرنيتشا شكلا قانونيا, لم يكن جيب سربرنيتشا ضمن الخطة الأمريكية للسلام، كما ان كل الأطراف الأخرى تغاضت عما حدث في تلك المدينة البائسة، ولكنهم جميعا بمن فيهم الجنرال سميث لم يدركوا مدى تصميم الصرب على مسح أعدائهم المسلمين من الوجود. في كلمة وداع حزينة لسربرنيتشا يقول قائد الجناح، مراقب الأممالمتحدة الغاني دافيد تيتش:لن ترى هذه الأرض بعد الآن طفلا مسلما يولد بها، كما أنها لن ترى كهلا بوسنيا يدفن في ترابها, لقد أصبح كل هذا الآن تاريخا, لقد انتهى كابوس سربرنيتشا، وقد تشتت أهلها مثل قطيع بلا راعٍ, لقد انتصر المعتدي