جرت عادة السّير (انجراند) على الخروج للصيد كل يوم وغالبا ما يكون ذلك وقد لبس قفازه الموشى بالذهب وعليه يتربع صقره الايسلندي الرائع ذو الأجراس التي تهتز باهتزازه فتبعث موسيقى ساحرة لا شيء يهز وجدان (انجراند) كرجعها العذب البطولي الشجي فيعب من نسيم الصباح العليل ما يملأ وجدانه ثملا ونشوة وزهورا. وذات يوم اصطاد الصقر طيرا وحط به داميا في إحدى السباخ حيث أخذه الصياد فذكاه على أن الصقر ذاته قد طار بعد ذلك,, لِمَ ولّى دون رجعة؟ ذاك كان السؤال المحير,, أتراه توغل في أعقاب طريدة؟ أتراه فتن بمرأى مياه البحر تعكس عسجد الشمس أم ان سحر السماء الممتدة أمامه زرقاء أزلية,, لا حدود لها قد شغفته حبا؟ وعبثا حاولوا إعادته بكل الأسماء المحببة ما تركوا قمة إلا وتردد فيها صدى لطبول شتى هزت مهاجع السكون ولطم (انجراند) شفة كبير الصيادين المرتعشة حتى نفح الدم منها ثم عاد بفم مطبق وعينين مسبلتين ألما وحزناً على فقدان صقره الذي ما عثر له على أثر. على ان (رينود) قد عثر عليه بعد إذ علق سيره الجلدي في أكمة ورد بّري,, وجده جاثما دون حراك وقد كاد الجوع والعطش ان يفتكا به,, كان أحد جناحيه عالقا فيما كان الآخر حرا,, بارزا في عناد وتحدٍّ وشموخ أما رأسه فممتد الى الأمام,, عيناه كانتا - رغم ذلك كله - كانتا ثابتتين ومنقاره مشرع فيما يشبه التهديد وبدا جميلا وسط غابة من التوت الأحمر كدم قان, وحرر (رينود) جناحه الحبيس بيدين ارعشتهما الرهبة والوجل فيما جلجل الجرس المحيط بعنقه حاملا شعار السير (انجراند) وصاح (رينود) في غبطة بعد أن استشعر انتقال ملكية الصقر إليه ذاك الذي لم يكن يفوقه صقر في عرض صدره وطول جناحيه وذاك الذهب الكبريائي المصهور المنسكب من عينيه الثاقبتين. ولم يطلع أحدا على نبأ اصطياده إذ ان القانون كان يحمي رياضة النبلاء تلك علاوة على أن ما قام به كان اعتداء واضحا على حقوق الآخرين إلا انه أصر على الاحتفاظ بالطائر بعد إذ افتتن به, وقرر أن يبني له قفصا في الغابة أجل ذاك سيكون أول ما سيفعله في الصباح قبل ان ينفض الصقر عن ريشه ذرات الصقيع ولسوف ينطلقان عبر الحقول كل يوم حتى يتآلفا موغلين في دفء الآكام والشمس تعلو فوق رأسيهما وتهبط وأفكار محمومة شتى تدور فيهما وسوف,, سوف,, لن يحن الطائر أبدأً الى قفاز سيده الموشى بالذهب ولا إلى برقعه المطرز باللآلىء وربطه ثانية ثم عدا صوب النهر فجلب بطة اصطادها بحجر ولما التقطها الصقر اثملت النشوة فؤاد (رينولد) إذ ان ذلك كان دليلا على أن الصقر قد رضي به سيدا جديدا! وأضحى الطائر ملك يمينه وكان يحني رأسه مصيخا السمع بعيون ثاقبة متطلعة كلما مزق سكون الفجر صوت تكسر الأغصان الرقيقة المتجمدة تحت قدمي سيده وكان ينتفض شامخا ويهز جناحيه متأهبا للطيران كلما امتدت يد (رينود) إليه,, فيهرعان عبر رقاع السباخ المتسعة صوب المجهول, وحدقت أعينهما بحدة في حمرة السماء القانية فيما بدت الآكام والتلال حالكة مدلهمة وكانت أغصان الأشجار الغافية مثقلة بأنواع شتى من الطيور,, على أن حلكة السماء سرعان ما خفت وغدت تشع زرقة وعسجدا كما الذهب فأما حواشي الحقول فاكتست ألوانا بديعة فيما حطت بومة فجأة في كبد المجهول تبحث عن ملاذ وشقشقت العصافير في سيمفونية إقلاع نشوى لكن (رينود) وصقره تباطآ نوعا إذ انها لم تكن سوى عصافير صغيرة لا تصلح للصيد. وهناك تجاه السباخ كانت طيور السمّن تطلق أصواتا حادة طائرة في دوائر واسعة,, وتلك كانت الطريدة المناسبة وعلا الصقر في كبد السماء فارداً جناحيه القويين وصدره البارز وبصر (رينود) به وقد استحال لونه ذهبا لامعا يخطف الأبصار بعد إذ سكبت عليه ذُكاء صبابتها وتوقف فكر (رينود) عن العمل فيما أعمى النور الباهر بصره وهو يرقب الصقر محلقا في أجواء الفضاء أبعد فأبعد,, وحجمه يزداد ضآلة في صفحة اللازورد ورنين اجراسه كرجع ساخر لصيحات طائر السّمَّن التي انتابها الذعر فحلقت في دوائر أكبر ثم خطر لها أن تهوي الى الخضم تحتها فتخفي في حماقة رؤوسها في أمواج اليم المتكسرة على أنها ارتأت ان تفر الى العلياء فتحلق في طبقات من الجو تعيي صيادها وتعجزه عن اللحاق بها لكنه انقض وبسرعة على واحد منها كان يطير بمعزل,, كانت سمّنة جزلة,, تاركا البقية تطير في حركات حلزونية والرعب يزلزل أفئدتها. كانت طريدته,, في واقع الأمر أقوى السّرب,, ولم يكن غير ذاك ليرضي غروره بعد أن حنّ الى الصيد ثانية واشتاق الى ملمس الهواء يعبث بأجنحته قويا نديا,, علا أكثر فأكثر ثم أشرع مخالبه وهوى كالفولاذ المحموم على طريدته,, شيء ما حينما كان هناك في الأعالي على وشك الانقضاض,, وقد وازى العصفور حجما بعد إذ قلصه الارتفاع الشاهق الذي كان فيه,, وضعية جناحيه وجبروت انطلاقة ذلك كله عكس تلك النظرة المتوحشة المنبثقة دون ريب من عينيه وبأن مخالبه كانت كأحدّ وأشد ما يكون وهوى بشدة على رقبة طريدته العاجزة قبل أن يسقط الاثنان كحجر فما تحرك لهما جناح. وعدا (رينود) نحوهما قطع المستنقع سباحة فخوضا قبل ان تفيق السمّنة من وقع الصدمة فتقاوم في غمرة اليأس بمنقارها الحاد على ان الصقر عاجلها بالضربة القاضية ثم استدار الى سيده محدقا فيه بعينين واسعتين منتظرا ان يقدم القلب له إذ انه ما كان ليلطخ ريشه بالدم. واطلقه (رينود) ثانية لكنه خفق بجناحيه على ارتفاع منخفض ثم عاد بكبرياء باردة فحط ثانية على كتف الفتى الباسم. بدأ واضحا ان الصقر كان مترفا عن الصغير من الطرائد,, وسرعان ما كف (رينود) عن محاولة التصقير ثانية واكتست نظراته ذات الجدية البعيدة المدى المنثالة من عيني الصقر وأخلص له دون غيره كرس له جلّ وقته,, بدا له كما لو أنه قبس من روحه ذات الأجنحة العريضة المرفرفة كآماله وذات النظرات البعيدة كطموحاته التي لا حدود لها على أن هيامه به كان ينبض ألماً وتوجسا مخافة أن يحلق الطائر عنه بعيدا بعيدا ذات يوم وصليل أجراسه يشي بسخرية منه دفينة ثم,,, يمضي فلا يعود أبد الدهر إليه وتغدو بذلك حياته قفرا كصحراء يباب وأمضته أفكار تشاؤمية شتى,, ماذا لو لم يعد الطائر يطيع له أمرا,, لو أمست نظراته جبال صقيع ليظل يصعقه بعينين تنضح منهما اللامبالاة؟! وعجز عن التحديق في الصقر ثانية,, جبن عن ذلك فيما اعتصر فؤاده هم مفاده انه قد لا يقتسم أيام الصفاء معه تارة أخرى فحلق في فضاءات الأحلام مجددا. واستلقى على الأرض السبخة ثانية مسندا رأسه الى باقة من الخلنج البري الأحمر فيما كانت الغمائم تمر أمام ناظريه زاحفة,, ثقيلة وخفيفة حينا,, مركزة,, واضحة الخطوط وهائمة سارحة حينا آخر والريح تمس منكبه دوما بكفٍّ خفية تنحني لها الغصون الرقيقة وسط الآكام وطفق يروي لطيره عذب الحكايا مستلقيا لما يزل. وجاء الملك (آرثر) ثانية من أعالي البحار فتناول سيفه البتار (إكسكليبر) وكان يلمع بزرقة سماء المساء في طقس بارد ونهض فرسانه الاثنا عشر قبل ان يهز الأرض وقع أقدامهم الثقيلة وكان (غاريث) ابن الامير حاضرا وقد ارتدى حلة قشيبة تنبض بكل جمال الصبا وإيراق الأحلام الغضة الفتية. وكان (رينود) يقف هناك على حصانه وهو سليل عائلة كريمة كذلك فيما جثم الصقر على ساعده وقد أرخى النعاس رأسه فيما لمعت عيناه سعادة واكتست بذهب شمس حكايا البطولة والإقدام . على أن تلك الغمائم المنساقة كأقدار البشر سرعان ما احلولكت وركب بعضها بعضا مشكلة قوسا عظيما في لون المداد الاسود المحمل بالنذر الرهيبة تسللت شعاعات الشمس عبر منافذها الضيقة باهتة,, حادة كحراب مسمومة,, وتخللت منام الصقر أحلام مقضّة عن غضب جريح عاجز فاستيقط مطلقا صرخات حادة. وسرعان ما وقعت أعين خدم السير (إنجراند) على صقره بيد (رينود) فقبض خدم النبلاء عليه واقتادوه إلى القلعة,, وارتجف المسكين حين أخذ الطائر منه,, كان الصقر جامداً بادي الكبرياء,, شامخا كعادته لا تبدر منه بادرة,, ولم يجل فيما حوله بصره,, وعندما دفع به الى سيده السير (انجراند) لم يحاول الأخير أن يربت على صقره المفضل الذي لطالما حنّ إليه بعد إذ استشعر أن يداً غير كريمة قد مسته وحدج السير (انجراند) (رينود) بنظرة طويلة صامتة. وتذكر قسوة ذلك القانون القديم الذي ما زال لحسن حظه ساريا والقاضي بإلزام من يحتفظ بطائر نبيل يحمل سمته بدفع اثنتي عشرة قطعة من الفضة أو يُقتطع من صدره مقدار ست اونسات من اللحم تحت وقع ضربات منقار حاد لطائر صيد بارع جائع! وأدرك سير (انجراند) مدى فقر الفتى (رينود) فألقى على صدره الأسمر العاري نظرة فاحصة قبل ان يمد يده فيتحسسه في حركة نمت عن برود رهيب ويبعث خطاب دعوة الى القلعة المجاورة داعيا قهرمانها وبناته ليحلوا ضيوفا عليه قبيل الفجر كيما يشهدوا استعراضا جويا لصقوره على ان يبدأ ذلك الاستعراض بعد القصاص من سارق خطير تم القبض عليه. وأجال (رينود) من مقر سجنه ناظرين مثقلين حزنا وأسى حدق بهما في أطياف الغمام المنحسر صوب مصب الشمس الغاربة كربيع عمره فيما أقبل السير (انجراند) حاملا الصقر على يده وقد حجب برقعاً كثيف النور عن عينين أرهقهما جوع أيام ثلاثة. وأقبلت عربات فخمة تحمل بنات القهرمان,, وكن يتبخترن جمالا وحسنا فيما لمع شعرهن,, أصفر في لون الذرة,, شلال ذهب ينثال حسنا وجمالا,, وفي كبد السماء لمعت كذلك أنوار بهيجة تماوجت حواشي غمامها بألوان زاهية كأجنحة الفراش وأحاطوا في شبه دائرة بالسجين المقيّد الذي ألقى على الزائرات نظرة طويلة فانبهر بحسنهن واعتصر فؤاده ألماً ممضاً مؤداه انه كان أمامهن يرسف في أغلال الأسر,, وردد بينهن بصره فبدون كطيور رقيقة قد يفزعها إما أطلق صفيرا حادا,, ثم نقل بصره الى ملامح الخدم الناطقة بالفضول وحب الاستطلاع ليستقر في نهاية المطاف على تلك السهول السمراء البعيدة الرحبة ينطق عبرها حتى يكل ويحلم مستلقيا على ثرى بيدائها الى ان يملّ! واستشعر ما كان ينتظره من عقاب على ان الطمأنينة سرعان ما خامرت فؤاده عندما أدرك أن صقره كان الموكل بإيقاع العقوبة عليه باقتطاع جزء من لحم صدره! ضحك في سعادة ونبض قلبه بكل إيقاعات الفخر والكبرياء التي كانت تعتمل في طيات روحه حينما كانت كلها ملك يمينه:,, الصقر الآيسلندي والنهارات المشمسة والحقول بطيورها المصغية في وجل,, والرياح الهامسة تشخلل وريقات أشجار الخريف الصفراء. لما أن رأى الصقر سماء الحرية ثانية واعتادت على مرأى النور عيناه,, تاق الى الصيد ثانية بعد إذ أمضه جوع ثلاثة أيام مضت حتى قدح الشرر من عينين كالبلور لا تذكران أحدا,, على ان (رينود) حاول جاهدا أن يلتقي ببصره فما استطاع ما التقت عيناه بعينيه فابتلتا بدموع الأسى والشجن وحرقة الحرمان! ولو ان ناظري الصقر لمحتا عينيه لقرأتا فيهما كل شيء,, شوقه وجرأته ولوعته,, ورضاه وعذب المنى ينثال في الأفق البعيد أمامه وقد اسند رأسه إلى خلنج البرية الأرجواني كصفحة السماء الغافية في احضان أرجوان المساء لكن عيني الصقر ما عكستا غير العدم,, وذلك الانتظار الممض لأول طريدة تلوح أمامه بعد إذ أمضه الجوع والترقب,, لا يعدل ذلك كله سوى نظرات الفضول من المحيطين بهما وابتسامة التهكم على شفتي السير (إنجراند). وأحس (رينود) بطرقات الأسى أكثر من ذي قبل ثم استدار مداريا فرط انفعالاته مطبقا على هواجسه الدامية أجفانه, وبقي على حالته تلك فيما كان المنادي يتلو تفاصيل الحكم ثانية (دزينة قطع من فضة أو ست اونسات لحم مما يلي القلب) وبذا يحمي السير (انجراند) رياضة النبلاء. ولم يرفع (رينود) رأسه حينما جُرح صدره كيما تغري رائحة الدم الصقر وعندما انشب الصقر منقاره فيه ما ندت عنه صرخة,, ما زاد على ان اهتز جسده قليلا فلمعت عينا الصقر غضبا ومد جناحيه كأنما سيرفرف ثانية بهما في أجواء السماء. ومدت بنات القهرمان أعناقهن الى الأمام وومضة اهتمام تشيع من أعينهن فيما جفلت الخيول حينما تسللت رائحة الدم الى خياشيمها وضربت بحوافرها أرضا غطاها الصقيع ونسيم الصباح يشرع أغطية سروجها على ان (رينود) بقي صامتاً فيما رمقه الصيادون بنظرات ترقب بعد إذ طال انتظارهم لصيحات ألم تند عنه كيما يكتموها بضجيج أبواقهم. كانت ضربة منقار الصقر الأولى قد اخترقت أنسجته الرقيقة وأحس بأن فؤاده يوشك أن يرافق اللحم المقتطع على أنه قد استشعر بعد ذلك ما يشبه التبلد الحسي,, فقد الإحساس طرَّا وكان مصدر ذلك ما ملأ وجدانه من فيض الرضا,, والخدر الدّواري,, وذاك الشعور بقوة الذات في خضم جحيم التحدي وفيما كان النجيع يتدفق حارا من صدره العاري والمنقار الحاد يعمل فيه تمزيقا,, أبحر (رينود) في خضم طيف غامر لذيذ بأحضان لا زورد أحلامه البهية وفهم ساعتها كل شيء! ادرك المعنى العميق للموت والشرف والكرامة وكيف يوقد ذلك كله شمس قصص البطولات والخلود الذهبية التي لا تغيب. عندما تيقن السير (انجراند) أن الاونسات الست قد استوفيت أعطى إشارة بالنفخ في الأبواق فيما أبعد الصقر المنتشي بمرأى الدم عن (رينود) وعيناه تلمعان ببريق كبرياء صامتة. وتتالت مراسم الاحتفال تباعا أما (رينود) فظل ثملا بحلمه غارقا في النشوة لما يزل وتركوه مستلقيا وقد توسد باقة من خلنج بري أحمر اما الصقر فلم يعد الى ذراع سيده السير (انجراند) ثانية إذ أنه لم يكن ليشرب أبدا من قدح انطبعت عليه قبلة من شفتي آخر.