الحج ركن من أركان الإسلام، فرضه الله سبحانه وتعالى على المسلم البالغ العاقل المستطيع مرة في العمر قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وهو مؤتمر إسلامي عالمي في كل عام يعود نفعه على الأمة الإسلامية لو أحسنوا المشاورة في أحوال المسلمين، ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه لم يفرضه عليهم في كل عام بل فرضه مرة واحدة، وما زاد عن ذلك فهو نفل وتطوع، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا مرة واحدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه).. والتزوُّد من النوافل بأداء الحج والعمرة أكثر من مرة واحدة خير، قال تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }. ولا غرابة أن نرى حرص الحجاج على إتمام الفريضة فهي ركن، وعلى تكرارها للموسرين وغيرهم لما أعد الله من ثواب جزيل وأجر عظيم للحجاج، ولأنه سبب كبير لدخول الجنة وتكفير السيئات كما ورد في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب وجوب العمرة وفضلها، ومسلم في كتاب الحج باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج لله عز وجل فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).. وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد) وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد).. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). ولِما يحدث في العقود الأخيرة من تزاحُّم بين الحجاج لرغبة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في أداء الفريضة، سنَّت الدولة قراراً بتحديد نسبة الحجاج لكل دولة وأجرت تنظيماً لحجاج الداخل من المواطنين والمقيمين كل خمسة أعوام وهذا مبني على قرار هيئة كبار العلماء في المملكة حرصاً على تنظيم الحج، ومع صدور هذا القرار إلا أن ظاهرة تكرار الحج ما زالت سارية، بل يلجأ البعض إلى التحايل للوصول إلى مكةالمكرمة فيتخلَّف عشرات الألوف من المعتمرين القادمين من خارج المملكة، ولم يعودوا إلى بلادهم في الوقت المسموح لهم، كما يتسلل مثلهم من المقيمين إلى مكة قادمين من مختلف المناطق محرمين في يوم عرفة فيحصل الزحام، بل ويفترش الكثير منهم الطرقات والممرات متسببين في حدوث وفيات ومشاكل لا حصر لها. وقد بيَّن العديد من العلماء الأفاضل خطورة هذا الأمر بل وإثم صاحبه، فضلاً على ما في تكرار الحج من أمور أخرى يمكن صرفها في أوجه تطوعية وأبواب متعددة للخير، وقد بيَّن العديد من المشايخ المتقدمين والمتأخرين فضل الصدقة بقيمة الحج أن يوفّروا على إخوانهم وعلى أنفسهم، وأن يتصدقوا بقيمة حجّهم فذكر ابن مفلح في الفروع (ج 2 - ص 497) أن الإمام أحمد سُئل: أيحج نفلاً أم يصل قرابته؟ قال: إن كانوا محتاجين يصلهم أحبّ إلي. ونقل ابن هانىء في هذه المسألة أن الإمام أحمد قال: (يضعها في أكباد جائعة). وفي الزهد للإمام أحمد عن الحسن قال: (يقول أحدهم: أحجّ أحجّ، وقد حججت! صِلْ رحماً، تصدّق على مغموم، أحسن إلى جار) وعن وكيع عن سفيان عن أبي مسكين قال: كانوا يرون أنه إذا حج مراراً أن الصدقة أفضل.. وهو قول الإمام إبراهيم النخعي أيضاً. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (ج 4 ص: 465): (والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته).. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - رداً على سؤال وُجه إليه، ما رأيكم في تكرار الحج مع ما يحصل فيه من الزحام واختلاط الرجال بالنساء فهل الأفضل للمرأة ترك الحج إذا كانت قد قضت فرضها، وربما تكون قد حجَّت مرتين أو أكثر؟ فأجاب - رحمه الله -: لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء، لكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة بسبب تيسير المواصلات، واتساع الدنيا على الناس، وتوفر الأمن، واختلاط الرجال بالنساء في الطواف وأماكن العبادة، وعدم تحرُّز الكثير منهن عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن، وأسلم لدينهن، وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن، وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم، فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد الطيب، ولا سيما إذا كان حجه يترتب عليه حج أتباع له قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج: لجهلهم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرمي وغيرهما من العبادات التي يكون فيها ازدحام، والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلين عظيمين: - أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها على حسب الإمكان. - والثاني: العناية بدرء المفاسد كلها أو تقليلها، وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تدور بين هذين الأصلين، وعلى حسب علم العبد بشريعة الله - سبحانه - وأسرارها ومقاصدها، وتحريه لما يُرضي الله ويُقرّب لديه، واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له - سبحانه - وتوفيقه وتسديده إياه في أقواله وأعماله.. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر الدين والدنيا إنه سميع قريب. وقال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: (ولو أن مئات الألوف الذين يتطوعون سنوياً بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية، أو لإعانة الموجود منها، ونظَّم ذلك تنظيماً حسناً، لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير وصلاح الحال والمال، وأمكن للعاملين المخلصين للدعوة إلى الإسلام أن يجدوا بعض العون للصمود في وجه التيارات التبشيرية والشيوعية والعلمانية وغيرها من التيارات العميلة للغرب أو الشرق، التي تختلف فيما بينها، وتتفق على مقاومة الاتجاه الإسلامي الصحيح، وعرقلة تقدُّمه، وتمزيق الأمة الإسلامية بكل سبيل، هذا ما أنصح به الإخوة المتدينين المخلصين الحريصين على تكرار شعيرتي الحج والعمرة أن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك، وإن كان ولا بد من التكرار، فليكن كل خمس سنوات، وبذلك يستفيدون فائدتين كبيرتين لهم أجرهما: - الأولى: توجيه الأموال الموفَّرة من ذلك لأعمال الخير والدعوة إلى الإسلام، ومعاونة المسلمين في كل مكان من عالمنا الإسلامي، أو خارجه حيث الأقليات المسحوقة. - الثانية: توسيع مكان لغيرهم من المسلمين الوافدين من أقطار الأرض، ممن لم يحج حجة الإسلام المفروضة عليه.. فهذا أولى بالتوسعة والتيسير منهم بلا ريب، وترك التطوع بالحج بنية التوسعة لهؤلاء، وتخفيف الزحام عن الحجاج بصفة عامة، لا يشك عالم بالدين أنه قُربة إلى الله تعالى، لها مثوبتها وأجرها.. (وإنما لكل امرىء ما نوى). وأتمنى أن يعي البعض المصالح الشرعية المترتبة على منع تكرار الحج، وأن يحتسبوا في ذلك وأنهم يتحوَّلون من سُنَّة إلى واجب فالحج، المتكرر تطوُّع ونفل، والمحافظة على أرواح المسلمين واجب شرعي، وقد بيَّن العلماء فضل صدقة التطوع للمحتاجين على أجر الحج والعمرة كنافلة). أسأل الله العلي القدير أن يحفظ الحجاج والمعتمرين، وأن يعيدهم إلى أهلهم سالمين، وبمرضاته وعفوه فائزين غانمين.