لا ريب أن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلا، وهو فرض العمر إذا أداه المسلم مرة واحدة تم بذلك ركن الإسلام: ولاشك أن إقامة فرائض الإسلام هي أول ما يطالب به المكلف ويأتي بعد أداء الفرائض العبادات المستحبة والنوافل وفيها أجر كبير لمن قام بها، ومعلوم أن التزود من النوافل خير والله تعالى يقول:{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فإن اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة (158)، وإن الناظر في واقع الحج هذه الأزمان يجد الزحام بسبب الأعداد العظيمة من الحجاج التي تقدم لمكان واحد من بلدان متفرقة بلغات مختلفة، وبعض هؤلاء ثقافته الشرعية محدودة وتعامله مع الغير فيه فظاظة وشدة مما قد يفقد الفريضة روحانيتها وقدسيتها ويحيلها إلى صخب وعراك وجدل، على الرغم من التنظيمات والتسهيلات الكثيرة وهم جميعاً متلبسون بالإحرام. وقد علم أن الكثير من الحجاج اعتادوا تكرار الحج أكثر من مرة فساهموا في نماء هذه المشكلات، مما استلزم النظر في وضع حلول عاجلة لهذه المشكلة. والواجب على المسلم أن يكون على علم وبصيرة وأن يحسن التجارة مع الله تعالى وأن يعرف فقه الأولويات في الإسلام، فهناك عبادات كثيرة يمكن أن يعملها الإنسان وينتج عنها نفع عظيم للأمة دون أن يترتب عليها مضايقة أحد، فهناك عبادات يتعدى نفعها إلى الناس كنوافل الصدقة ومنها الإنفاق على الفقراء والمساكين ومدارس تحفيظ القرآن الكريم ونحو ذلك مما يمكن تأديته بالنفقة التي ينفقها الحاج في سفره إلى الحج. ولا يخفى واقع بلاد المسلمين وحاجتهم الماسة إلى أقل الأموال في مشارق الأرض ومغاربها فلو أن تلك الأموال التي ينفقها عشرات الآلاف من الحجاج الذين اعتادوا تكرار الحج أنفقت في الدعوة إلى الإسلام وصد حملات أعداء الله لكان لها أثر بين بين - بإذن الله تعالى - وكان أجرها أعظم بكثير من أجر حج تطوع استؤجر له من همهُ في سفره الدنيا، وإن أبواب التطوع بالخيرات بحمد الله كثيرة ومتعددة والمؤمن البصير يتخير من تلك العبادات ما يرى أنه أعظم أجراً ونفعاً دون أي إخلال بالواجبات أو إقدام على ما فيه مضايقة على المسلمين. وقد ذكر ابن مفلح في الفروع 2-497 أن الإمام أحمد سئل: أيحج نفلاً أم يصل قرابته؟ قال إن كانوا محتاجين يصلهم أحب إلي وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 4-465 (والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبه، وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته)، وهذا النقل عن هؤلاء الأئمة الأعلام كان قبل أن يوجد الزحام الشديد الذي يموت فيه جمع من الحجاج. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء، ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة بسبب تيسر المواصلات، واتساع الدنيا على الناس، وتوافر الأمن، واختلاط الرجال بالنساء في الطواف وأماكن العبادة، وعدم تحرز الكثير منهن عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن وأسلم لدينهن وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن، وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم. فنرجو أن يكون أجرهم في الترك أعظم من أجرهم في الحج إذا كان تركهم له بسبب هذا القصد الطيب، ولا سيما إذا كان حجه يترتب عليه حج اتباع له قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج، لجهلهم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرمي وغيرهما من العبادات التي يكون فيها ازدحام، والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلين عظيمين أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها حسب الإمكان. والثاني: العناية بدرء المفاسد كلها أو تقليلها، وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تدور بين هذين الأصلين وعلى حسب علم العبد بشريعة الله سبحانه وأسرارها ومقاصدها وتحريه لما يرضي الله ويقرب منه، واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له سبحانه وتسديده إياه في أقواله وأعماله. أسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر الدين والدنيا إنه سميع قريب. وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة قرارها رقم 187 في 26-3-1418ه بتنظيم حجاج الداخل ومن ذلك أن لا تسمح الحكومة لمن حج بتكرار الحج إلا بعد خمس سنوات كما هو المعمول مع المقيمين في المملكة من غير سعوديين ما دامت الضرورة تدعو إلى ذلك؛ إسهاماً في التخفيف عن الحجاج وإعانة لهم على أداء مناسك الحج ودفعاً للحرج والمشقة عنهم. وقد أكد ذلك أيضاً المجلس بقراره رقم (224) وتاريخ 8- 11-1426ه المتضمن أن المجلس أعاد دراسة هذا الموضوع وذلك بمناسبة كثرة الحجاج من الداخل، مع وجود الإصلاحات والإنشاءات المتعددة في مكةالمكرمة وفي المشاعر المقدسة، مما يتطلب زيادة النظر في سلامة الحجاج، والسعي الدائب لدرء الأخطاء عنهم، ومنع ما يكون سبباً في وقوع الحوادث والكوارث نتيجة الأعداد المتزايدة في الأماكن المختلفة في المشاعر. وقد اطلع المجلس على قراره المشار إليه آنفاً، الذي جاء فيه (أنه بعد الدراسة والمناقشة والتأمل والتماس الحلول والعلاج المناسب لتخفيف المعاناة والمشقة عمن يريد أداء مناسك الحج، ومنع الأضرار المترتبة على شدة الزحام أو تقليلها. فإن مجلس هيئة كبار العلماء بالأكثرية لا يرى ما يمنع من وضع تنظيم للحجاج السعوديين، ومن ذلك أن لا تسمح الحكومة لمن حج إلا بعد خمس سنوات كما هو المعمول به مع المقيمين في المملكة من غير السعويدين، ما دامت الضرورة تدعو إلى ذلك إسهاماً في التخفيف على الحجاج، وإعانة لهم على أداء مناسك الحج، ودفعاً للحرج والمشقة عنهم، عملاً بقول الله - عز وجل - { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ... الآية} وقوله سبحانه { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (يسروا ولا تعسروا، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) انتهى. وإن المجلس ليؤكد ما سبق أن صدر منه في ذلك، ويوصي المواطنين والمقيمين في المملكة بمراعاة هذا الأمر والاستجابة للتعليمات التي تضعها الدولة لتنظيم الحج، بحيث يلتزم الجميع بعدم تكرار الحج إلا بعد مضي خمس سنوات إعانة للحجاج على أداء مناسكهم بيسر وسهولة، ومنعاً للأضرار والحوادث التي تنجم عن الازدحام والتدافع في بعض المواقع. هذا والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،، هيئة كبار العلماء وأني لأرجو من إخواني المسلمين التعاون فيما بينهم في ذلك عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى }. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (المسلم أخو المسلم) وأن يحتسبوا ترك هذه العبادة تخفيفاً على إخوانهم الحجاج فالمسلم يؤجر على ما تركه لله تعالى، وقد سبق ذلك في كلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. هذا والله أسأل للجميع حجاً مقبولاً وعملاً صالحاً مع دوام التوفيق والسداد. (*) عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء