ثمة كثير من الكتابات تتطلب القراءة فقط، وثمة كتابات أخرى تستحق القراءة والتمعن، ولكن القليل ربما يستوجب القراءة والتمعن والرد أيضاً، خصوصاً عندما تصدر هذه الكتابات عن أشخاص لهم ثقلهم وأسماؤهم في الساحة الأدبية والثقافية، مما يجعلنا نحمل إليهم حُفناً من علامات الاستفهام والتعجب التي لا تكاد تُرى في بحر العرفان الذي غمرونا فيه والود الذي نجازيهم به. وما دفعني للرد هو ما قرأته للدكتور الفاضل عبدالرحمن الفريح بعنوان: (مسلسل خالد بن الوليد ووقفة مع تاريخ صدر الإسلام - جريدة الجزيرة العدد 12462) وكان المقال يتكلم عن بني تميم، وهل ارتدوا فيمن ارتد من القبائل العربية بعد وفاة - الرسول صلى الله عليه وسلم - فقال الدكتور في سؤال وجهه لفضيلة الشيخ عبدالعزيز الفريح: هل ارتد بنو تميم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فكان جواب الشيخ: إن بني تميم لم يرتدوا فيمن ارتد من القبائل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن ما ذكر عن ردة بني تميم ليس له أساس من الصحة، وذكر الشيخ مجموعة من النقاط الافتراضية والمبنية على التأويل، فكانت النتيجة أن بني تميم لم يرتدوا، ثم تابع الدكتور الفريح المقال الذي أكد فيه أن بني تميم لم يرتدوا مستدلاً ببعض القصائد والمعارك التي تدل على مشاركة بعض قادة تميم وبطونها في حروب الردة وناسياً أن جميع القبائل - بمن فيها تغلب وبكر وحنيفة وغطفان - كان لها قادة ومقاتلون في حروب الردة ولا ينفي ذلك ارتداد قبائلها، أي إنه عندما يشارك شرحبيل بن حسنة التميمي وقيس بن عاصم في معارك الردة لا يعني أن تميم لم ترتد وما أشبه هذا بأن نقول إن الفرس لم يكفروا بالله ويكذبوا نبيه، ونستدل على ذلك بأن سلمان الفارسي شارك في معارك المسلمين ضد الفرس. والمستغرب من الدكتور الفريح أن يكون باحثاً في التاريخ والحضارة ويصدر عنه هذا الكلام الذي قد يكون مبعثه عاطفة خفية أكثر منه حقيقة علمية، وإلا أين هو من كتب التاريخ التي تجمع على ارتداد بني تميم - ولا ينقص ذلك من شأنها وفضلها - مع من ارتد من قبائل نجد، وهذه بعض المصادر التي غابت عن الدكتور أو أنه أنكر الثقة عن أصحابها: 1- ابن كثير (البداية والنهاية): وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خلا أهل المسجدين مكة والمدينة، وارتدت أسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الأسدي الكاهن. وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي. وارتدت مذحج ومن يليها وعليهم الأسود بن كعب العنسي الكاهن. وارتدت ربيعة مع المعرور ابن النُّعمان بن المنذر. وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة بن حبيب الكذّاب. وارتدت سليم مع الفجأة واسمه أنس بن عبد ياليل. وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة. 2- ابن خلدون (تاريخ ابن خلدون) - فصل قصة سجاح وبني تميم: كان بنو تميم قد اختلفت آراؤهم أيام الردة، فمنهم من ارتدّ ومنع الزكاة، ومنهم من بعث بأموال الصدقات إلى الصديق، ومنهم من توقف لينظر في أمره. 3- البلاذري (الفتوح) 1-42: وعقب وفاته - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - ارتد أهل اليمامة والبحرين، واستعانوا بالفرس، وارتدت ربيعة وحنيفة وسليم وبنو تميم وحضرموت، واجتمعت غطفان وأسد على الردة. وكان على رأس بني أسد طلحة بن خويلد المتنبي، وعلى رأي بني تميم الكاهنة سجاح، وعلى رأس بني حنيفة مسيلمة الكذاب، وعلى كندة الأشعث بن قيس. 4- د. توفيق محمد برو (التاريخ السياسي والحضاري لصدر الإسلام والخلافة الأموية) (ص 98-99): ومنهم مسيلمة الكذاب من بني حنيفة الذي انضمت إليه قبيلته وقبيلة تميم بعد أن تزوج الكاهنة سجاح. ولم يكن نفي ارتداد بني تميم هي المغالطة الوحيدة في مقال الدكتور الفريح، بل تبعها بأخت لها عندما جعل سجاح التميمية تغلبية لإثبات نفي الردة عن بني تميم قاطبة مستدلاً بكتاب ابن كثير دون ذكر اسم الكتاب، وهذا يؤخذ على الدكتور الفريح الباحث في التاريخ والحضارة بعدم ذكره لاسم الكتاب، وهنا سنورد بعض الأدلة وسنذكر بدورنا أسماء الكتب والمراجع التي تناولت سجاح ونسبها: 1- وقد ذكر ابن جرير الطبري في كتابه (تاريخ الأمم والملوك): وكانت تقول لهم، والكلام عائد إلى سجاح: (إنما أنا امرأة من يربوع، وإن كان ملك، فالملك ملككم) - مع العلم أن بني يربوع أحد بطون تميم - وسارت بجيشها تريد قتال أبي بكر، وقد سمعت بقوة مسيلمة، فسارت إليه، وتزوجته. فقال مسيلمة: لنأكل بقومي، وقومها العرب. وأنه عندما عادت إلى قبيلتها سألها قومها: هل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا. قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق. فرجعت، فقالت له: أصدقني صداقاً. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي. قال: عليَّ به. فجاء، فقال: نادِ في أصحابك، إن مسيلمة بن حبيب رسول الله. وقد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخرة، وصلاة الفجر. وقد ذكر الكلبي أن مشيخة بني تميم حدثوهم أن عامة بني تميم لا يصلونها، وقالوا له: هذا حق لنا، ومهر كريمة منا لا نرده. 2- ابن الأثير (الكامل في التاريخ) في ذكر بني تميم وسجاح: وكان ثمامة بن أثال الحنفي تأتيه أمداد تميم، فلما حدث هذا الحدث أضر ذلك بثمامة وكان مقاتلاً لمسيلمة الكذاب حتى قدم عليه عكرمة بن أبي جهل، فبينما الناس ببلاد تميم مسلمهم بإزاء من أراد الردة وارتاب، إذ جاءتهم سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان التميمية قد أقبلت من الجزيرة وادعت النبوة. وكانت ورهطها في أخوالها من تغلب تقود أفناء ربيعة معها الهذيل بن عمران في بني تغلب، وكان نصرانياً، فترك دينه وتبعها وعقة بن هلال في النمر وزيادة بن فلان في إياد والسليل بن قيس في شيبان، فأتاهم أمر أعظم مما هم فيه لاختلافهم والتشاغل فيما بينهم. وكانت سجاح تريد غزو أبي بكر، فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم فأجابته وقالت: (أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملك فهو لكم). ويقول ابن الأثير في آخر الفصل، وقيل: إنها لما قتل مسيلمة سارت إلى أخوالها تغلب بالجزيرة فماتت عندهم ولم يسمع لها بذكر. 3- ابن حجر العسقلاني (الإصابة في تمييز الصحابة) الجزء السابع (11361): سجاح بنت الحارث التميمية التي ادعت النبوة في الردة وتبعها قوم ثم صالحت مسيلمة وتزوجته ثم بعد قتله عادت إلى الإسلام، فأسلمت وعاشت إلى خلافة معاوية ذكر ذلك صاحب التاريخ المظفري. إن هذا غيض من فيض الشواهد والأدلة والبراهين التي غصت بها كتب الثقاة من الرواة والمؤرخين عن ارتداد كثير من قبائل العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بينها بنو تميم وكاهنتهم سجاح التميمية. ولقد كان ليكفينا في الرد على ما زعمه الدكتور الفريح هو ما ذكره في كتابه الذي ألفه هو وأسماه (بنو بكر بن وائل) ص 276-277 ولقد ذكر فيه الدكتور الفريح: (وسجاح من بني يربوع عاشت في الجزيرة مع أخوالها من بني تغلب بن وائل بن ربيعة، وهي كاهنة كانت تجيد سجع الكهان.. وأقبلت من الجزيرة بجيوش جرارة، فمرت على بلاد قومها تميم رغبة في انضمامهم إليها، فكان أول من بادرها مالك بن نويرة مانع الزكاة في بني يربوع) فماذا يُسمى هذا التناقض - يا دكتور - في ما كتبت في مقالك السابق وما كتبت في كتابك (بنو بكر بن وائل)؟ وكل ما ذكرت في الأعلى قد لا يكون هو دافعي الرئيس للرد على مقال الدكتور، فسجاح ونسبها وتميم وردتها ظاهرة جلية في كتب التاريخ والسيرة ولا تتطلب من المهتم إلا فتح الكتب والمراجع، وستتجلى له دون عناء وتأويل، ولكن ما قادني للرد هنا هو ما ذكرته في مقدمة هذا المقال بأن الدكتور لم يتحرَّ الدقة والموضوعية فيما تفضل به من ذكر لحروب الردة وتبعاتها ودليلنا على ذلك أن الكاتب لم يذكر إلا المصادر التي تتناسب وطرحه متغافلاً عن كثير وكثير من المراجع - وأولها كتابه - التي تعارض وتدحض نظريته التي بناها على الافتراضات وليس الحقائق، مع العلم أن الافتراضات لا مكان لها في حضرة الحقائق، فبالعودة إلى مقال الدكتور الفريح سنجد أنه اتبع نهج (لو أنه كذا لكان كذا)، ولم يكتف الدكتور بإهمال كثير من المصادر، بل شحن المقال بقصائد وأسماء وأحداث تدل على أن هناك محركاً عاطفياً كان له تأثيره في الضمير الأدبي، ونجد ذلك جلياً في آخر المقال عندما أورد الدكتور الفريح شاهداً من كتاب الباحث السوري يوسف العش يقول فيه: (ومن مضر قبائل بدوية من أولها تميم وهي قبيلة ذات شأن وقوة وبأس أقامت وسط الجزيرة واعتمدت على الرحلات والغزوات، فدفعت بني بكر وتغلب دفعتهما واستولت على أراضيهما فنزحتا إلى العراق وأقامتا فيه). فإذا قبلنا أن جميع الشواهد التي ذكرها الدكتور الفريح تؤيد الطرح الأساسي وهو (هل ارتدت بنو تميم مع غيرها من القبائل أم لا؟). فما هو الداعي والمبرر لذكر هذا الشاهد في ختام المقال السابق؟ هي يعني أن بني تميم إذا كانت من أقوى القبائل وطردت تغلب وبكر - كما يزعم - أنها لم ترتد؟ وما هي صلة الوصل بين ارتداد بني تميم - لب الموضوع - وطردها المزعوم لتغلب وبكر؟ لا أجد مبرراً لهذا الشاهد المقحم دون لزوم أو حاجة إلا أن يكون هو لب المقال وما سبق التمهيد والمقدمة، فهل يجوز أن يطلب من كاتب ما أن يكتب مقالاً عن نباتات الجزيرة العربية ومراعيها، فيقول إن أكثر ما اعتمد عليه قبائل الجزيرة في رعي إبلهم نبات (الرمث) الذي ترعاه إبل تغلب بن وائل؟ التي قال شاعرها عمرو بن كلثوم: إذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدينا وكذلك قال شاعرهم الفارس الأمير أبو فراس الحمداني التغلبي الوائلي: نحن قوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر فهنا سيكون إقحاماً غير مناسب متعمداً كان أو غير متعمد وما أشبه ما ذكر الدكتور الفريح في مقاله السابق بهذا المقال، أضف إلى ذلك أن من يبحث في علم الحضارة سيجد أن شبه الجزيرة العربية لم تفتأ عن ضخ موجات القبائل والأمم منذ بداية التاريخ، فكانت الخزان الذي لم تتوقف الهجرة منه بسبب سنين الجدب والجفاف بداية من الآشوريين ومروراً بالكنعانيين والآراميين وانتهاء بالقبائل العربية التي تبعث الإبل والكلأ، فلا يجوز - يا دكتور - دس البُندق في العسل ولا يجوز الانتقاص من قدر القبائل الأخرى؟ فإن كانت تميم قد ارتدت في حقبة من الزمن فهذا الشيء لا ينقص من قدرها وعلو شأنها وبسطة نفوذها، ويكفيهم فخراً قول الشاعر: إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا وتأكد أن الإسلام قد جَبَّ ما قبله من جاهلية والتوبة محت ما قبلها من ردة، وتأكد أن قبائل العرب أعزها الإسلام وأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأن مَنْ قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الإسلام: (أشد أمته على الدجال) قد قال الله في زعاماتهم قبل الإسلام - وهم سادة بني تميم عطارد بن حاجب والزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم والأقرع بن حابس وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد ورياح بن الحارث - في كتابه الحكيم: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات 4) كتاب الطبقات لابن سعد. وأخيراً أتمنى من الدكتور عبدالرحمن ألا يضرب بالمصادر الموثقة عرض الحائط لأهداف غير علمية وربما تكون آثارها سلبية وتزع التشكيك في كثير من مصادر تاريخنا الإسلامي والعربي، كما أن الانتصار لقبيلة ما لا يعني الانتقاص من غيرها، فكما أنه قد أثارك تشويه مسلسل لقبيلة عربية، فإنه هناك من يثيرهم تشويه مقال لقبيلة أخرى.