ثمة قيمة مركزية تتبوأها الرؤى المنامية في المنظور الإسلامي بحسبها جزءاً من التكوين الطبيعي للوجود الإنساني، ويمتد الإيمان بها عميقاً في المنهج السلفي الذي يتعاطى معها بوصفها حقيقة قائمة في الحياة البشرية على نحو يعكس الإعجاز الرباني المتجسِّد في التشكُّل المادي على أرض الواقع للمشاهد المنامية التي يعاينها المرء إبان انفصاله عن عالم الواقع واستغراقه في عالم الرؤى والأحلام الذي من أهم خصائصه توافره على تكثيف جلي في المنحى الزماني.. إن الرؤى والأحلام ظاهرة صحية كما تؤكد على ذلك الدراسات السيكولوجية ولها دور ملموس في حفظ التوازن العقلي والصحة النفسية كما أن لها أثراً جلياً يحفظ للعقل لياقته أثناء النوم على نحو يجعله على أهبة الاستعداد إذا آب إلى العالم الشهودي. إن القدرة الفائقة على الانعتاق الزماني المتجلي بأبعاده الثلاثة والقدرة على التحرر من قيود الظرف المكاني من أبرز الخصائص التي تتوافر عليها الرؤى وتنال من خلالها قيمة محورية تكفل لها حضوراً نوعياً في الواقع الفعلي. إن ثمة رؤية والغة في المحذور العقدي تتجسَّد في المنهج الفلسفي الذي يتعاطى مع المشاهد المنامية بحسبها ليست إلا نتيجة حتمية للأخلاط التي تفرز انعكاساً مباشراً على النفس بقدر هيجانها وثمة مسلك هو الآخر عند بعض أرباب علم النفس ناء عن الموضوعية بفعل حصره للرؤى في القالب المادي البيولوجي المحض وقصرها على خليط من الأمزجة والرواسب التي يستدعيها النوم من أعمق أعماق اللاوعي الإنساني. إن روم معرفة الحالة اللاحقة والتطلع إلى استكناه الغيب المستقبلي من لوازم النفس البشرية التي تتوق بطبيعتها إلى تعرية ما خلف اللحظة الحاضرة وتشرئب إلى مكاشفة آفاق المجهول وهتك الأستار المسدلة على جدار الزمن في بعده المستقبلي. يجري هذا في الوقت الذي يجهل فيه الإنسان كنه كينونته وماهية روحه التي بين جنبيه ولا سبيل له إلى معاينتها. لقد تطلعت البشرية إلى استكناه مكنون الغيب عبر آليات خرافية متباينة كالسحر والكهانة والتنجيم والخط بالرمل وقراءة الكف والنظر في الفنجان وثمة أسفار كتب كثيرة سطرت في هذا المجال. إنه لا ريب أن ثمة رؤى لها حظها الوافر من المصداقية بفعل موضوعية مصدرها.. هذا الضرب من الرؤى هو الذي ترتقي فيه الروح إلى عوالم أعلى سمواً وبالقدر ذاته تنأى عن حديث الذات وأحاسيس البدن وما يوصف بالتهيؤ النفسي.. إن تجاهل هذا الضرب - الرؤيا الصادقة - هو لون من القفز على الواقع والنأي الحاد عن البعد الموضوعي. في راهننا الآني شاعت حمى الأحلام المنامية التي محتواها محصور في حدود معاناة البدن وبات الكثيرون يعيشون على ظاهرة إيقاع الأحلام نعاين ذلك بجلاء عبر هذا السيل المنامي المتدفق والمنبعث من حدة الأزمات الخانقة التي تولد بطبيعتها كمّاً متراكماً وموجة كثيفة من المشاهد المنامية التي يفرط البعض في التعلُّق بها وربط مصيره، بل ومصير الأمة بنتائجها ويتعاطى معها بوصفها ممهدة لزلزال كوني وتغيير جذري يحدث دوياً في الآفاق ويعيد تأسيس الخارطة الأرضية وعلى نحو شمولي عام. إن الإخفاق في عالم الواقع والفشل في تحقيق أدنى درجات التفوق يدفع البعض وعلى نحو مُلح إلى مغادرة عالم اليقظة والانفصال عنه إلى عالم المناخ الفانتازي والمكتظ بالخيالات الوهمية ليكفل له تحقيق الأمجاد والإنجازات ويضمن له الحضور التبجيلي المتميز. مثل هذا الضرب يولي مناماته أهمية قصوى فيحمِّلها ما لا تحتمل ويلزمها ما لا يلزم فهو لا يتعاطى معها بحسبها مبشرات وقرائن - لا أدلة - وإنما يجري تعاطيه على نحو مرضي فيرتب على ضوئها أحكاماً شرعية ويبنى عليها مواقف وقرارات قد تعصف حتى ببنائه الأسري. يقول الإمام (الشاطبي) في كتاب الاعتصام: (وعلى الجملة فلا يستدل بالأحلام في الأحكام إلا ضعيف المنّة. نعم يأتي العلماء بالمرائي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ولا يبنون عليها أصلاً وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها) 2 - 85 إن الرؤيا الصادقة لغة ذات دلالات ورموز وتنطوي على بشارات ونذارات ومضامين قد تستغلق على الفهم، وتأويلها وفك رموزها واستيعاب إشاراتها والعبور من ظاهرها إلى باطنها، وإزالة الحجب عن بعض محمولات ألفاظها هو شأن يتركز على نحو ظني لا قطعي وهو داخل في الفتوى التي لا تسوغ ممارستها إلا لمن توافر على الأهلية العلمية لأنها علم قائم بذاته وله اعتباره الشرعي يقول الشيخ (السعدي): (إن علم التعبير من العلوم الشرعية وإنه يثاب الإنسان على تعلُّمه وتعليمه وإن تعبير الرؤيا داخل في الفتوى) ولا ريب أن مؤوليها يتباينون في ملكاتهم وقدراتهم الذهنية وفي مدى تقديرهم للمصالح والمفاسد. إن التأويل والاستبشار به ممارسة نبوية حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع جزءاً من الرؤى ويستبشر بها مع صحابته الكِرام بعد صلاة الفجر في جو مفعم بالروحانية وجلسات نبوية تحاط بالتوقير والتبجيل خلافاً لما هو عليه الأمر في واقعنا المعاصر الذي راجت فيه بفعل التطور التقني والإعلامي تجارة الأحلام وتأويلها من قِبل بعض المتطفلين على هذا العلم عبر استغلالهم للفضول الفطري لدى القطاع الجماهيري المتلهف لبصيص من النور يضيء له ظلام الغد المنظور.. هؤلاء جعلوا من التأويل الذي لا يستند إلى مرجعية تأصيلية محور جذب وآلية استقطاب يعلي من سوية الرصيد الجماهيري. هذا السلوك الانتهازي يباشره جملة من أرباب الدجل والشعوذة في برامج القنوات الفضائية في مشهد يشيء بضآلة الوعي لدى أمة تكافح لملازمة دثارها. هذا التأويل العبثي يمارس فيه توظيف الرؤى أحياناً كأدوات عاملة في صعيد ما لشرعنته أو لنزع مشروعيته.. هذه الممارسة تجري في سياق براجماتية يمليها النهم المادي والجهد اللاهث لنيل بطاقة الحضور الاجتماعي عبر الضخ القنواتي والشبكة العنبكوتية والكتب التأويلية ذات الطابع السردي الألفبائي.. السرية المتكاملة شرط تفتقده هذه البرامج، ولا شك أن المعبر المعتبر هو من يحتفظ بأسرار الآخرين ويجعلها دفينة الذاكرة لا يبوح بها لأحد.. و(ابن القيم) يشير إلى هذا المعنى بقوله: (المفتي والمعبر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره).