عن (95) عاماً توفي الأديب المجدد نجيب محفوظ - رحمه الله - وكانت الأوساط الثقافية تترقب وفاته في الأيام القليلة الماضية، لكبر سنه ولحراجة حالته الصحية، وقد كشفت وفاته مقدار التأثير الذي كان يمارسه، في قرائه ونقاده وأصدقائه، وفي البسطاء من أبناء مصر، وخصوصاً أبناء حي الجمالية، حيث ولد ونشأ، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى ضاحية العباسية، أما مقره الأخير منذ العام 1956م، فقد كان في شقة أرضية صغيرة بحي العجوزة، تشرف على نيل القاهرة، وتحفها أشجار الظل من كل مكان، وعلى كتفها الشمالي يقبع مطعم سندويتشات، لا تهدأ الحركة فيه طوال ال24 ساعة، وشمال هذا المطعم يقبع مستشفىالعجوزة، حيث عولج في العام 1994م عندما تعرض لمحاولة اغتيال أقدم عليها أحد المهووسين، هذا المهووس لم يقدر سن أو قيمة رمز مثل هذا، ومع ذلك فقد عفى نجيب محفوظ عنه، وأخذ خلال ثلاث سنوات يتدرب على الكتابة بيده اليسرى لتعطل يده اليمنى نتيجة لذلك الحادث الإجرامي، لكن المشكلة أن هذا الكاتب المؤثر، انتقل بعد تعرضه للاغتيال إلى طور آخر، فقد أصبحت هناك حراسة دائمة عليه وعلى منزله، مع مرافق أو أكثر يتابعونه في أي مكان يذهب إليه، وغير ذلك صار نجيب محفوظ يعاني شيئاً فشيئاً من عدم السمع وضعف البصر، ماجعله ينقطع عن القراءة، ومشاهدة التلفزيون، ولكي يتواصل مع من يجلسون حوله في مقهى (فرح بوت) أوصالة فندق (شبرد) أو الميرديان (القديم)، استعان بأحد مريديه لكي يتولى توصيل الصوت أو الكلمات له، ونفس هذا الشخص كان يقوم بقراءة الصحف ومشاهدة التلفزيون، لينقل له أولاً بأول ما يهمه من أخبار الناس والدنيا.. لقد قيض الله لهذا الأديب من يكون له اليد والصوت والعين التي تقرأ وتشاهد! هناك من يضم نجيب محفوظ إلى المرحلة البلزاكيه، خصوصاً في روايته أو ملحمته الثلاثية (بين القصرين، السكرية، قصر الشوق) التي تقدم سيرة ذاتية لحياة أسرة من البرجوازية، الصغيرة، على رأسها السيد أحمد عبدالجواد أو سي السيد، الذي يجسد شخصية الرجل الشرقي أبدع تجسيد، صارم وحاد ومخيف في منزله، لا يسأل عن عمل أو فعل أو سلوك يقوم به، يأكل وحيداً مع الأولاد، وتأكل الزوجة وبناتها بعد ذلك، لا تجرؤ الزوجة على نطق اسمه، أو رفع صوتها في حضرته، وهو يطلب من الجميع أن يكونوا قمة في الاستقامة، في الوقت الذي يتحول هذا الأب إلى شخص آخر خارج البيت، يرافق الراقصات، ويعقد الجلسات الماجنة مع شلة من أصدقائه، حيث الطرب والرقص والسكر، حتى الهزبع الأخير من الليل، وقد تحللت هذه الشخصية شيئاً فشيئاً، كما تتحلل العديد من المجتمعات! هذه الرواية كانت حبة في عقد الروايات التي وصلت إلى (40) رواية، أبرزها ملحمة الحرافيش، ثرثرة فوق النيل، القاهرة 30، ميرامار، السمان والخريف، اللص والكلاب، حضرة المحترم، خان الخليلي، الكرنك، زقاق المدق، السراب وغيرها، وقد تحولت أغلب روايات نجيب محفوظ، رحمه الله، إلى أفلام سينمائية، بعضها عد من علامات السينما المصرية مثل: اللص والكلاب، ميرامار، ثرثرة فوق النيل، السمان والخريف، والثلاثية.. أعمال نجيب محفوظ، في مجملها تقدم رؤية فلسفية وأخلاقية وحضارية واجتماعية، منطلقاً من المجتمع المديني، فلا مكان للريف أو الصحراء في رواياته، فقد ولد ومات في المدينة، بل إنه لم يخرج من مصر إلا مرتين، وكلها على ما يبدو كانت مجاملة للحاكم، الذي هادنه ووجه له ولأجهزته نقداً مريراً في روايتيه: الكرنك وثرثرة فوق النيل، كانت الرحلة الأولى إلى اليمن لزيارة القوات المصرية التي ساندت الانقلاب العسكري، الذي وقع هناك في منتصف الستينيات، والثانية كانت إلى يوغسلافيا، التي كانت ترتبط بحلف مع مصر، من خلال زعيمها (تيتو). ولنجيب محفوظ رحلة سنوية إلى الإسكندرية، فمن هذه المدينة استمد العديد من الروايات أبرزها ميرامار.. أما على المستوى الشخصي فقد عرف بأنه رجل الساعة، يستيقظ في الخامسة فجراً، ليتوجه سيراً على قدميه من العجوزة حتى وسط البلد، حيث مكتبة مدبولي ومقهى ريش، هناك يشرب قهوته ويقرأ الصحف، ثم يتوجه إلى المنزل، حيث يقرأ ويكتب ساعات متواصلة، وله سهرة أو أكثر أسبوعياً مع شلة (الحرافيش) أو مجموعة من الذين يعد الأب الروحي لهم، مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وعبدالرحمن الأبنودي. لقد قرأت نجيب محفوظ مبكراً، وكانت البداية من مجموعته القصصية (دنيا الله) حتى مجمل رواياته وقصصه ومسرحياته القصيرة (تحت المظلة) ورأيته عدة مرات، وفي كل مرة كنت أشعر أنني أمام إنسان بسيط، بالغ الرقة والتهذيب، ليس له من هدف في هذه الدنيا سوى أن يقرأ ويكتب ويجالس الناس، ويشرب القهوة ويدخن، فقد عاش ومات في شقة بسيطة، ولم يمتلك سيارة أو رصيداً في البنك، حتى نصيبه من (جائزة نوبل) أعطاه لجريدة الأهرام، لتقوم في كل عام بتوجيه ربح نصيبه من الجائزة، في عمل من أعمال الخير، التي ترى أنها تستحق الدعم.. لقد ولد نجيب محفوظ في حي الحسين حيث أحبابه من الدراويش، وحيث التكيات، والحمامات الشعبية، والمقاهي، والموالد، وحيث أولياء الله الصالحين، وكما ولد في هذا الحي، فقد صُلي عليه فيه. في مصر المحروسة هرمان، أحدهما من حجر صوان، والثاني من لحم ودم ومعان، وكما يزور عامة الناس والمثقفين والباحثين أهرامات الجيزة، سيزورون نجيب محفوظ، قارئين وباحثين عن المتعة والعبر والسمو، ليست وحدها جائزة نوبل التي لم تخطئ طريقها إليه، هناك عامة الناس الذين أحبوه، حتى الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، شعروا أنه واحد منهم، منحاز لهم ولقضاياهم وهمومهم، رحمه الله! فاكس 4533173