رؤى وآفاق... تمثل سلسلة من المقالات المنتظمة كتبت على امتداد عشرين عاماً من سنة 1405ه وحتى سنة 1424 ه وقد احتلت مكانها في صحيفة (الجزيرة) طوال تلك السنين، وهذه المقالات قد تعددت فيها الرؤى؛ فهناك الرؤى الأدبية والرؤى الاجتماعية والرؤى التاريخية، فهذا الكتاب قد حوى عدداً من المقالات الأدبية والنقدية والاجتماعية والوطنية والوصفية والفكرية. وهذا الكتاب متعدد الأوجه؛ فيمكن لطلاب التعليم العالي والتعليم الجامعي أن يستفيدوا منه عن طريق احتواء كتب القراءة على موضوعات منه، وكذلك القارئ المطلع المتطلع إلى المعرفة يجد في هذا الكتاب ضالته؛ فهذا الكتاب متنوع المعارف، حيث إن القارئ ينتقل من موضوع إلى آخر وهو في رحابة صدر وفي رحلة ممتعة، فهذا الكتاب يحتوي حقبة تاريخية أنتجت فكراً جديراً بالقراءة، وهو بلا شك سيسهم في تاريخ الصحافة في بلادنا، وفي تطور المقالة بأنماطها المختلفة، فهدف طباعة هذا الكتاب ونشره كما أكد عليه المؤلف هو نشر الوعي وإذاعة الفكر، فالكتاب السعودي أخذ مكانته وأصبح يزاحم الكتب الأخرى في معارض الكتاب وفي المكتبات العربية والعالمية؛ وقد بين المؤلف أيضاً ذلك في مقدمة كتابه قائلاً: إن كتب المقالات نمط من الكتب التي يجد فيها بعض القراء ضالته فلكل كتاب قارئ؛ فوحي القلم للرافعي، ووحي الرسالة تتلمذ عليهما أجيال من البشر وما زالت تقرأ وسوف تقرأ في السنين القادمة، فنشر المقالات سنّة سار عليها عدد غير قليل من الكتاب وأنا واحد من أولئك، ولي أمل في أن يحتل هذا الكتاب المنزلة اللائقة به، فمقالاته متنوعة من الشعر إلى النثر إلى المسرح إلى الطرفة مع الالتزام بقواعد فن المقالة بما يتوافر فيها من أسلوب وأفكار، ولا أستطيع تحديد محتوى المقالات ولكن أشير إلى بعضها: فهناك المقالة المشتملة على تحديد موضع أو الإشارة إلى نسب أو عرض معركة من تاريخنا أو حفظ أثر تاريخي أو عرض مسألة نقدية.. ثم حدد المؤلف منهج الكتاب قائلاً: ولم أرسم منهجاً معيناً للكتاب بحيث أجمع المقالات الأدبية في باب أو فصل أو أجعل المقالات الاجتماعية في فصل، وكذلك المقالات النقدية والوطنية والفكرية. لم يغب عني ذلك فعملنا الأكاديمي يحبذ التقسيم والتبويب، ولكني رغبت في توجه آخر بحيث تركت الزمن يرسم منهج الكتاب، فترتيب المقالات هو ترتيب زمن كتابتها إلا ما ندر. وقد جعلت عنوان الكتاب هو عنوان العمود الصحفي الذي أحتل مكانته في صحيفة (الجزيرة) عقدين من الزمن (رؤى وآفاق). فهذا الكتاب قد سار في تبويبه على منهج يمكن أن أعتبره طريقة فريدة ومتميزة لسرد محتويات الكتاب ولتبيين محتواه من الموضوعات المتنوعة التي تنتقل بالكاتب من ناحية إلى أخرى وكأنه في نزهة خفيفة وظريفة في ربوع المعرفة المتنوعة من المقالات الأدبية والنقدية والاجتماعية والوطنية والوصفية والفكرية، وهذا بلا شك منهج فريد ومتغير؛ فهو من ناحية يبعد عن القارئ السأم والملل الذي يحصل بسبب طول القراءة، ومن جهة أخرى - كما أشرت سابقاً - يثري ثقافة القارئ بسبب تنقله في ربوع المعارف المختلفة. وهذا الكتاب كما سبق وأن أشار مؤلفه؛ عاصر حقبة تاريخية من زمن المملكة العربية السعودية كان فيها العديد والعديد من الأحداث المحلية وكذلك الأحداث التي ترتبط بتاريخ هذه الدولة العريقة وبمواقفها الفذة التي صدرت عن قادتها العظام وارتبطت بالأحداث الدولية، فكانت سلسلة رؤى وآفاق خير من يثبت ذلك بأسلوب متميز من كاتبها الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل، الذي التزم فيه بفن المقالة وبما يتوافر فيها من أسلوب وأفكار تميزها عن النشر التقليدي. ولابد لي أخي القارئ من وقفة أبين لك فيها بعض البيانات التي تتعلق بهذا الإصدار؛ فكتاب (رؤى وآفاق)، يقع في ثلاثة مجلَّدات وقد وصل عدد صفحاته إلى 2534 صفحة من القطع المتوسط، ومؤلفه الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل الأديب والناقد المعروف، وبعد هذه اللمحة السريعة الخاطفة عن بيانات الكتاب سأبدأ باستعراض عدد من المقالات التي ضمنها الكاتب هذا الإصدار، كانت البداية في هذه المجلدات من نصيب (مفاجأة) هذه المقالة التي نشرت في جريدة (الجزيرة) في رجب من العام 1409 ه ويتحدث المؤلف فيها عن شجيرة أرطى صغيرة في وسط صحراء واسعة.. قائلاً: هي شجيرة أرطى تتقاذف الرياح عيدانها التي كانت أغصاناً في وقت مضى، غرست عروقها في الكثيب، بل إنها بثت العروق من هنا وهناك تحت طبقة رقيقة من الرمل علَّ قطرة ماء تنزل من السماء فتمتصها لتدب الحياة في تلك العيدان فتعود طرية كما كانت، إنها ترنو إلى غمامة فوقها وكأنها تخاطبها بقولها إنني أنتظر قطرات منك أيتها الغمامة، جودي بمائك العذب القراح فبه أحيا ويكثر زواري فيطيب الكثيب وتؤنسني الشياه بشغائها ويعمر ربعي بالشجيرات الصغيرة من خزامى وأقحوان، أيتها الغامة إنني أشتاق إليك كاشتياق الأعرابية إلى صحرائها في قول الشاعر: تمنت أحاليب اللقاح وخيمة بنجد فلم يقدر لها ما تمنت أيتها الغمامة ألمٌ أن أصلي مقيل اليعفور ومبيت الثور الوحشي وأغصاني مرافئ للمكاء، إن تلك الطيور الصغيرة تغرد فوق عيداني عندما تشاهدك في السماء فتنظر إليك بعين الحسرة وتطلق أصواتاً مطربة هي للاستسقاء أقرب منها إلى أي شيء آخر. لقد اعتادت الطيور أن تطلق تلك الأصوات في وقت الأصيل حيث تمرين من فوق كثيبي، ولا تنسى إطلاق تلك الأصوات في الصباح فكأنها تستبشر بانبلاج يوم جديد، وعملك أيتها الغمامة أن تعي تغريد المكاء وإن لم تعيشه فاسمعي قول الشاعر: إذا غرد المكاء في غير روضة فويل لأهل الشاء والحمرات إن الحزن يكتنفني أيتها الغمامة فأخشى من القيظ اللاهب يفد علي بدون التزود له بماء في عروقي وعند ذلك لا أرى طيراً ولا وحشاً فيقفر الربع ولا يرى حولي إلا الآل يرتكض. إنها مناجاة من يشتاق إلى قطرة الماء وهو في جوف الدهناء تحيط به الرمال وتنأى عنه الدحول والآبار. إنني أيتها الغمامة أحببت وطني فأقمت فيه، ألم تسمعي قول القائل: (عمرت الدنيا بحب الأوطان) فلا تلوميني على ملازمة الكثيب فهذا وطني ولست أول من أحب وطنه؛ أمطري أيتها الغمامة بماء رواء، وسحي أيتها السحابة حتى تعمري أرضي، ألم أرك دانية دنو غمامة الشاعر القديم عندما قال فيها: دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بالراح ألم تسمعي أيتها السحابة قول الحكيم (من لان عوده كثرت أغصانه) أعذريني فأنا أشتاق إلى مطرك الذي يدحو دحوا ويقشر الرمل قشراً ويعصف بعيداني اليابسة فتحيا بإذن الله بعد أيام قلائل إنني غير مرتاحة لمرور الأيام وأنا أراك تعبرين أجوائي في كل عشية وتغمرين بأمطارك البلاد النائية إنني حريصة أترقب اليوم الذي يصيبني فيه غيثك، ولعلك تذكرين قول القائل (لاراحة لحريص) فإن كان هذا القول ذما؛ فأنا أرتاح إليه. لقد سمعت بمن يزري بي وبأمثالي ممن يقيم هنا في هذه الصحراء عندما قال: بأرض نبتها عُشَرُ وطلح وأكثر صيدها كلب وذيب ويبدو أن قائل هذا البيت لم يألف الصحراء ولم يتسلل دخان الأرطى أو الرمث أو الغض إلى أنفه، ولو أنه عاش بجواري مدة من الزمن لما قال بيته، ألم يسمع قول القائل: إذ يقولون: ما يشفيك؟ قلت لهم دخان رمث من التسرير يشفيني إنني لا ألوم هذا ولكنني ألوم من وسمت رمالي موطئ قدميه ولوحت سمائم قيظي وجنتيه وسفعت رياح وطني ناصيتيه عندما قال: دعوني من نجد فإن سنينه لعبن بنا شيباً وشيبننا مرداً إنني أطلب من الله السقيا بأن يأمر سحابة بالتجول في أجوائي والإزرام في سمائي فتصده الرياح عن المسير إلى أن يفرغ ماءه.. لقد يبست الأغصان وضمر العود وقل الزوار من الطيور، إنها مناجاة شجرة في بحر من الرمال تنتظر قطرة ماء. فالمؤلف في هذا المقال الذي اختاره لكي يبتدئ به هذا الإصدار يشهد على نمطٍ من أنماط المقال الأدبي الحقيقي، الذي يصور فيه مناجاة خيالية بين الجمادات التي اختارها من البيئة الصحراوية فإنطاق الجمادات بهذا الأسلوب الراقي دليل على الفن الذي يتمتع به الكاتب؛ بالإضافة إلى ذلك فإن الأسلوب الذي سلكه المؤلف في هذا المقال يذكرنا بأسلوب الرافعي في كتابه - وحي القلم - فتأثر الكاتب به واضح وبين وهو من أبرز ما يميز هذا المقال بالذات فمن قرأ مقالات الرافعي ومقال الربيع بالتحديد يقتنص هذا التأثر، فيقول الرافعي في مقالته الربيع: (رحت أسأل الطبيعة كيف تصبح كالمعشوق الجميل لا يقدم لعاشقه إلا أسباب حبه وكيف تكون كالحبيب يزيد في الجسم حاسة لمس المعاني الجميلة). فمن خلال النص السابق للرافعي نلحظ التأثر الإبداعي بين النصين وذلك مع أن المقطع السابق للرافعي قصير جداً سيق للدلالة على ذلك من خلال الخلفيات الثقافية للقارئ الكريم. فالديباجة الفنية التي يطوعها الرافعي لخدمة نصوصه ومقالاته هي نفسها التي يستخدمها الدكتور الفيصل في مقالاته مع أن سلسلة مقالات رؤى وآفاق تمثل سلسلة من المقالات المتنوعة.. الفكرية.. الاجتماعية.. الثفافية.. الوصفية... وهذه الأنواع من المقالات تتطلب أن يكون قلم صاحبها سيالاً ويمكن أن يطاوع صاحبه في أي من تلك المواضيع.. ومع تأثر د.الفيصل بالقديم وذلك بحكم تخصصه في الأدب القديم وتعمقه فيه فقد أصدر عدداً من الدواوين المحققة يذكر فيها شعر القبائل العربية بداية بديوان الصمة بن عبدالله القشيري الذي صدر قبل عقدين من الزمان ومروراً بشعراء بني قشير وشعرهم الذي صدر في مجلدين وكذلك شعراء بني عقيل وشعرهم الذي صدر في مجلدين وأيضاً شعر بني عبس الذي صدر في مجلدين وغيرها من الكتب التي تناولت تاريخ الأدب العربي القديم والشعر مثل المعلقات العشر... ومع كل هذه الاهتمامات بالأدب القديم إلا أن د.الفيصل سلك الأسلوب الحديث في طريقة معالجته للمواضيع المتنوعة التي يطرحها في مقالاته فكتابة المقالة فن قبل أن تصبح نمطاً كتابياً له قوانينه وأساليبه المحددة التي كتب عنها النقاد كثيراً في كتاباتهم المقننة.. وهذا النمط الكتابي الحديث نجده في عدد من مقالات د.الفيصل فمن اطلع على مقال: جائزة التاجر المثالي) ومقال (فسيرة الدهر تعويج وتقويم)، ومقال: (أطلال منفوحة تناجي الأعشى)، يلحظ فيها الأسلوب الحديث الذي انتهجه كاتب هذه المقالات.. فالقارئ عندما يطلع على المقال الذي يهمه في شأنه العام أو الخاص يحتاج إلى أسلوب حديث سهل يصل إلى أعماق تفكيره وإلى لب عقله، فيحصل عندئذٍ التفاعل المطلوب والذي يجب أن يكون بين النص والقارئ لكي ينتج التفاعل الإيجابي وهذا بلا شك هدف الكاتب الذي كان يرمي إليه من خلال كتابة هذه المقالة. ولعل المشوار الطويل الذي ابتدأه د.الفيصل في كتابة عموده (رؤى وآفاق) أثمر لنا ثمرة يانعة تقع في ثلاثة مجلدات وفي أربعة آلاف صفحة كجهد متميز استمر لمدة 20 عاماً متوالية.